وهم التفوق البيولوجي

وهم التفوق البيولوجي

17 فبراير 2020

(فاتح المدرّس)

+ الخط -
اعتادت النساء العربيات، مرغمات، في هذه البقعة المؤسفة من الكون، على نمط التفكير الذكوري، المثير للغيظ والخيبة، والذي يعبر عنه المنطق السائد لدى الغالبية العظمى من رجال أشاوس، مفترض أنهم حاصلون على درجات علمية عليا، وتسبق أسماءهم، في العادة، الألقاب الأكاديمية الفخمة، ذات الوقع الرنان، بل إن بعضهم يطرح نفسه في المحافل تقدّميا مثقفا وتنويريا، غير أن ذلك لا يمنعه من ممارسة النقيض من طروحاته، ومن اتخاذه مواقف متخلفة، تجاه قضايا المرأة في حياته الشخصية، البعيدة عن الضوء، إذ نفرٌ كبيرٌ من هؤلاء، وعلى الرغم من الادعاء المستمر، لا يؤمن، في الواقع، بحق المرأة المشروع في التعليم والعمل، واتخاذ القرارات المصيرية المتعلقة بحياتها. يبيحون لأنفسهم ممارسة وصايةٍ جائرةٍ على نساء العائلة، تحت وهم تفوق بيولوجي، لا أساس له من الصحّة. يتذرّعون به، وينصبون أنفسهم حرّاسا للفضيلة والعفة، بغية مصادرة حق المرأة في الحياة الحرّة الكريمة، بعيدا عن هيمنة ذكورية جوفاء.
لا يتورّع هؤلاء عن اعتبار جسد المرأة مصدر تحقير وإهانة، ولا يتردّدون في إلقاء الشتائم بحق خصومهم من هذا المنطلق المثير للاشمئزاز، فنساء الآخرين، بناتهم وأخواتهم وأمهاتهم، نقطة ضعف ومصدر ذلّة وعار محتمل. وللأسف، هذه النوعية من الشتائم التي تطاول النساء مألوفة جدا في مجتمعاتنا، ولا تقتصر على طبقة اجتماعية معينة، ولا على مستوى ثقافي بعينه. يختلف الأضداد في بلادنا على كل شيء، ويتفقون فقط على مبدأ احتقار الجسد الأنثوي باعتباره شيئا لا ضير من توجيه الإهانة إلى الآخرين بمجرد الإشارة إليه.
إلى هنا، يظل الأمر، على غوغائيته وقبحه، وعلى كم الإساءة الذي ينطوي عليه، يظل ضمن حقائق الحياة القبيحة التي اعتدنا على التعايش معها، باعتبارها من أمراض هذا الشرق المنكوب على أكثر من صعيد، لكن المستهجن، وغير القابل للاستيعاب، أن تسلك النهج المريض ذاته نساءٌ يمكن اعتبارهن مسترجلاتٍ، فاقدات الاحترام لذواتهن، يعانين من إحساس دفين بالدونية والاحتقار الجلي للذات الذي يتجلى في إقدامهن على التفوه بالشتائم والألفاظ الذكورية الفظة ذاتها، المنفّرة، الفجة، الخالية من الذوق والأدب، والقائمة على تحقير الأنوثة، واعتبارها سببا للإذلال وتلقي الإهانة.
صحيح أن الأمر لا يقتصر على بلادنا العربية، بل يمكن اعتباره ظاهرة عالمية، تتراوح فجاجتها من بلد إلى آخر، لكن ذلك ليس مبرّرا لتفشّي هذه الظاهرة على نطاق واسع لدينا. وإذا اتفقنا أن نوعية الشتائم المتداولة في مجتمع ما إنما هي واحدة من ملامح ثقافة هذا المجتمع، وإذا سلمنا بأن مستوى حضارية أي مجتمع وتقدميته يُقاس بمكانة المرأة فيه، نخلص إلى أننا في أدنى السلم وفي الدرك الأسفل حضاريا. ولا يمكن أن يتوفر حل جذري لشكل هذه العلاقة الملتبسة مع الأنوثة إلا بالتصدّي لها منذ مرحلة الطفولة، حين تفرض الدولة في المدارس الحكومية الاختلاط بين الجنسين، منذ مرحلة مبكرة جدا، كي يُصار إلى كسر هذا الحاجز النفسي الرهيب بينهما، إضافة إلى أهمية تنشئة الطفل الذكر على قيم احترام المرأة وتثمين دورها في الحياة، واعتبارها ندّا وسندا وشريكا كامل الأهلية. وأيضا من الأهمية بمكان الاشتغال على الفتيات الصغيرات، منذ بداية تشكل وعيهن، لغايات تعزيز إدراكهن قيمتهن، ودفعهن إلى عقد صلح مبكّر مع أجسادهن، واعتبار أنوثتهن نقطة تمييز، وليست مجلبةً للخزي والعار، والتعاطي مع ذواتهن بعزّة وكرامة والافتخار الحقيقي القائمة على إدراكٍ عميقٍ للقيمة السامية للأنوثة، والتصدّي بجسارة لكل محاولات التشويه والتحقير التي يقوم بها صغار مرعوبون، يدركون في أعماقهم ضآلتهم أمام عظمة الأنوثة التي يكمن فيها سر الحياة ومبرّر استمرارها.
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.