الأزهر وعواصف الثورة المصرية .. وما بعدها

الأزهر وعواصف الثورة المصرية .. وما بعدها

12 فبراير 2020

صلاة العيد في الجامع الأزهر في عيد الأضحى بالقاهرة(24/9/2015/لأناضول)

+ الخط -
شكّلت التغيرات السياسية في مصر، على مدى السنوات القليلة الماضية، تحدّياً لقدرة الأزهر على الاستجابة للتغيرات الضرورية للإصلاح السياسي. وفي هذا السياق، يرتبط ظهور شيخ الأزهر، أحمد الطيب، بإثارة التساؤلات بشأن تقييم دوره السياسي منذ ثورة 25 يناير في عام 2011، خصوصاً أنه شارك في أحداث كثيرة، حاول من خلالها وضع ملامح التغيير أو شرح طرق التعامل مع التراث باعتباره ميراثا ديناميكيا يحمل، في جنباته، خصائص تجديده. وعلى الرغم من هذه المساهمات، ظل المدخل السياسي مهيمنا على تفسير دور الأزهر في إطار تأثره بخيارات الفاعلين السياسيين. 
من الأفكار إلى السياسات
صدرت "وثيقة مستقبل مصر" في 19 يونيو/ حزيران 2011 تحت رعاية الأزهر، ونتيجة حوار شارك فيه أكاديميون وشخصيات عامة بعيدين عن الدخول في المعترك السياسي وتماثل الحقوق السياسية، وربط الشورى بالأشكال الحديثة للنظم السياسية، كالتعدّدية، تداول السلطة، المحاسبة، الشفافية وحكم القانون، وهو ما يعد تطويراً مهماً على الصياغات التقليدية لدى المؤسسات الدينية. وإلى جانب تأسيس العلاقة على تساوي المواطنة، تصدّت وثيقة الأزهر لظواهر التكفير الديني للمخالفين، التخوين والطعن في وطنية المخالفين في الرأي أو الموقف السياسي، وهي ظواهر ترجع إلى عدم التمييز بين الوعظ والإفتاء، وعدم وجود آلية للرأي في الحركات الدينية، بشكلٍ جعل من وعاظهم بديلاً أو منافساً للأزهر.
وبعد تنحي حسني مبارك، لم تكن في مصر وثيقة ترتب العلاقات السياسية والاجتماعية، وتكون بمثابة ميثاق أخلاقي للثورة، يحدد ملامح قوانين الانتخابات والتوافق حول الدستور، فالإعلان الدستوري ارتبط فقط بوضع إجراءات الحقوق والواجبات، لكنه لم يتصدّ لإشكالات ما قبل بناء المؤسسات أو طريقة صياغة الدستور. وبهذا المعنى، تسد وثيقة الأزهر فراغاً سياسيا، وشكلت أرضية يمكن الاستناد إليها في الانتقال السياسي، خصوصاً ما يتعلق بتعريف الدولة الحديثة على أساس مبادئ الشريعة الإسلامية.
وبالنظر إلى لغة الوثيقة الحداثية، وكإطار عام للمبادئ، قبلت الأطراف السياسية اللجوء إلى 
مشيخة الأزهر، لاستكمال مسار خريطة الطريق، وامتصاص توتر ما بعد الاستفتاء، غير أنه بعد مضي وقت قليل، انصرفت الأحزاب والحركات السياسية إلى طرح وثائق منافسة تتصدّى للقضايا نفسها بمحتوى فكري محدود، ودخلت في جدل مفتوح بشأن ملامح المبادئ الدستورية، لكنها لم تتمكن من التوافق على شيء ما، وقد شكل هذا المناخ بيئةً معاندةً وبعيدة مع الطروحات السياسية للأزهر.
ومع تفاقم الخلاف بشأن مواد في الدستور، أصدر الأزهر وثيقة "منظومة الحريات الأساسية"، في 8 يناير/ كانون الثاني 2012، حيث عدّت أولوية الحرية أساسا لاحترام التعدّدية الدينية، والمواطنة الكاملة حقا أساسيا يضمن المساواة في الحقوق والواجبات، وذلك باعتباره حجرَ الزّاوية في البناء المجتمعي الحديث، وربط كفالة حرية العقيدة باحترام النظام العام. ويترتّب على حق حرية الاعتقاد التسليم بمشروعية التعدّد ورعاية حق الاختلاف، وهي القضايا التي شغلت جانباً مهماً في محتوى مواقف الأزهر. وقد شهدت تطويراً ملحوظاً في حماية الحق في التعبير، بوصفها دالة في الحريات الاجتماعية، مثل تكوين الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، كما تشمل حرية البحث العلمي والصحافة والإعلام، وحرية الحصول على المعلومات اللازمة لإبداء الرأي، كمظاهر للتعبير الديمقراطي.
ويعكس محتوى وثيقة الأزهر الثانية قدراً كبيراً من وجود الأزهر في قلب الأحداث السياسية ومركز الحراك الاجتماعي. ولعل النقطة المهمة هنا تكمن في أن الموقّعين على الوثيقة أبدوا ثقة في ضمان الأزهر، في وقت تزايدت فيه الشكوك والانقسامات حول المسار السياسي، إذ يمكن النظر إلى صدور هذه الوثيقة، بعد إصدار دستور 2012، على أنها جزء مكمل للدستور، فإذا ما نظرنا إلى احتدام الخلاف بين الإخوان المسلمين وأحزاب جبهة الإنقاذ، يجعل الأزهر وتصرّفاته ضمن الإطار الدستوري القائم، وربما هذا ما يفسّر تحفظات "الإخوان المسلمين" على التوسع في دور الأزهر، والمطالبة بأن ينحصر في المبادئ العامة، وليس وسيطاً بين الأحزاب والدولة.
وتتقارب رعاية الأزهر "وثيقة نبذ العنف"، 31 يناير/ كانون الثاني 2013، مع توجهاته في تأكيد الحريات والحقوق، حيث تترابط قضايا حق الحياة مع الحرية وحكم القانون، من حيث الالتزامات المتبادلة بين الدولة والمجتمع، في الحفاظ على الملكية العامة واحترام حقوق الإنسان وإدانة التحريض على العنف. وقد أشار البند 10 إلى أهمية المسؤولية المشتركة في حماية كيان الدولة، وهو ما يشكّل نزوعاً نحو التقريب بين الحكومة والمعارضة، على أساس احترام إرادة الشعب.
وقد مثلت هذه الوثيقة استجابة لمعالجة تصاعد الأزمة والعنف السياسي، بالإضافة إلى تراجع القدرة على احتواء خلافات ما بعد الدستور، بعقد ملتقىً شاركت فيه كل التيارات السياسية والمؤسسات الدينية. وكان واضحا فيه إبراز ممثلي شباب الثورة، ليشكل أرضية توافق مكملة للدستور، وليس فقط التركيز على نبذ العنف، باعتبارها عرَضاً للخلاف السياسي.
وفي مرحلة ما بعد الدستور، انشغل شيخ الأزهر بمحاولات احتواء الأزمة المتصاعدة، وكانت مواقفه تتبنى التأكيد على الحل السلمي ونبذ العنف واضطلاع مؤسسات الدولة بمهامها. وعلى مدى شهري يونيو/ حزيران ويوليو/ تموز 2013، يمكن رسم ملامح تناول الأزهر التداعيات السياسية، ففي مرحلة أولى، أطلق الأزهر نداءات استغاثة دارت حول مسألتين، اللجوء الفوري إلى الحوار حلا وحيدا، والوقف الفوري للعنف وادخار الدماء لبناء الوطن، وهي محاولةٌ لوقف العنف العشوائي المتبادل، لكنه مع تباعد المواقف السياسية، كانت مشاركة "شيخ الأزهر" في اجتماع "3 يوليو"، بمثابة الحل الأخير ، وذلك على أساس المفاضلة بين خيارات سيئة. ومن ثم، اتجهت أولويته إلى تخفيف المضارّ وفك الاحتقان بين المؤيدين والمعارضين، وخلص إلى أن إجراء انتخابات رئاسية مبكرة مشمولة بضمانات النزاهة هو الحل السلمي الملائم للخروج من الأزمة.
واستمر الأزهر في الدعوة إلى الحوار وحق التعبير السلمي، لكن شيخ الأزهر، مع فض الاعتصام في ميدان رابعة العدوية، أكد، في بيان 14 أغسطس/ آب 2013، حرمة الدماء وعظم مسؤوليتها، وهو تعبير عن الاستنكار، وأيضاً، إن العنف ليس بديلاً عن الحل السياسي. وقد جاء البيان على نقطتين مهمتين: معرفته بإجراءات فض الاعتصام من الإعلام، وهو ما يعني ابتعاده عن دوائر اتخاذ القرار، والطلب بعدم إقحام الأزهر في الصراع السياسي. وتكشف سرعة إصدار البيان عن القدرة على تحديد الموقف، على الرغم من احتدام الأزمة السياسية، بشكلٍ يحيد محاولات التأثير على قرار الأزهر وتأجيل إعلان موقفه. وأسّست هذه الأحداث لمرحلة أخرى من الجدال بشأن تموضع الأزهر بين مؤسسات الدولة، وتمثلت في دوره في تجديد الخطاب الديني ومكافحة الإرهاب والظلم.
اتجاهات وبدائل موازية
على الرغم من تماسك (واتساق) محتوى مقترحات الأزهر ومساهماته في الشأن السياسي، فإنها لم تلق قبول الفئات السياسية أو احترامها. ولذلك شرعت تيارات سياسية في تكوين كياناتٍ 
موازية، أهمها "الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح"، يونيو/ حزيران 2011، في محاولة لتجسيد وحدة التيارات الإسلامية وفق أولوية مصلحة الأمة على المصالحة الشخصية، غير أن تضمين الميثاق بوجوب السمع والطاعة للهيئة يثير إشكالية العلاقة مع المؤسسات الدينية في الدولة، وخصوصاً مشيخة الأزهر. وتعد الإشكالية أكثر وضوحاً مع سعي الهيئة إلى القيام بدور الجهة الاستشارية للسلطة التشريعية، بما يعني دخولها في مجال منازعة مع الأزهر ومؤسساته، كما تسبب تأييدها مرشح حزب الحرية والعدالة للرئاسة في ظهور منازعاتٍ أخرى، لم تقتصر على مناهضة المنافسين، وإنما أدّت إلى انقسامها حول الخيارات السياسية.
بشكل عام، لم يؤد تحالف الإخوان المسلمين والسلفيين لتهدئة المجال السياسي، بل زادت الانقسامات بين مكونات حراك الإسلاميين. ولم تقتصر على الانتقادات المستمرة لحزب النور، ولكنها امتدت إلى تعميق الخصومة بينها، فلم يمثل ترابط "الإخوان" ببعض السلفيين إضافة نوعية بقدر ما أضفى تعصّباً على الخطاب والمواقف السياسية، فتحيّز أعضاء في الهيئة الشرعية الدائم زاد من حدّة نقد منافسي الإخوان وتصويرهم خصوما أو أعداء. وهذا ما كان لافتاً في النقد المستمر لحزب النور والمرشح الخارج عن الإخوان، عبد المنعم أبو الفتوح، في أثناء الحملة الانتخابية، والذي صار مادّة يومية رسخت جانباً واسعاً من اهتزاز التقييم السياسي.
وبالنظر إلى تكوين الهيئة الشرعية ونظام عملها، يمكن اعتبارها امتداداً لأفكار الإخوان المسلمين عن تكوين هيئة من كبار العلماء، على السلطة التشريعية أخذ رأيها في مشروعات القوانين، والتي جرى تدوينها في مسودة نهائية لبرنامج الحزب السياسي في عام 2007، غير أن "الإخوان"، تحت ضغوط المساءلة وعدم القدرة على التفسير، تراجعوا عن الفكرة. ولكن طرحها مرة أخرى يعكس مدى استقرارها طريقا أصيلا، وأن ظهورها يرتبط بتوفر الظروف الملائمة، وتترابط محاولات هز منصب شيخ الأزهر، عبر إعادة تعيينه، في مناقشات دستور 2012، مع تطلعاتٍ إلى إيجاد مرجعية دينية موازية في صورة أقرب إلى الهدم منها إلى البناء.
الحكومة وأزمة ما قبل يوليو
وبعد دستور 2012، وفيما تراجعت قدرة الحكومة على إجراء الانتخابات التشريعية، تزايدت موجات الاحتجاج والمعارضة ورفض الوضع القائم. وبغض النظر عن مناقشة أسباب تعثر الحكومة في القيام بمهمة استكمال بناء المؤسسات الدستورية، وارتكانها لمجلس الشورى، جهة تشريعية انتقالية، يمكن القول إنها دخلت في حالة قصور ذاتي، أطاح قدرتها على ملاحقة الأزمات المتسارعة على مدى الشهور التالية، فبجانب دخولها في أزمةٍ مع السلطة القضائية، كانت استجابات رئيس الدولة، محمد مرسي، ضعيفةً للتحدّيات المتكرّرة، خصوصاً منذ خطاب 26 يونيو وحتى الكلمة الأخيرة في مساء 3 يوليو. ولعل القصور كان متمثلاً في قراءة بيانات الجيش، إذ مالت آراء الإخوان المسلمين (الحرية والعدالة) إلى تبنّي خط تنازلي، بدأ باسترضاء المؤسسة العسكرية وقبولها وسيطا، وانتهى برفض تدخلها، ما يكشف عن ركودٍ ظاهر في إدراك مسارات الأزمة، سوى أن بيان الجيش لم يعرض على رئاسة الجمهورية، واعتبارها إنذاراً للمعارضة، فمنذ ظهور الأزمة للعلن في 26 يونيو، كانت مواقف الرئيس تدور حول التفاوض مع الجيش وسيطا في حلها، من دون تقديم إطار زمني يلائم الانقسام السياسي. ومن هذه الوجهة، تعكس توجهات "الإخوان" إدراكاً غير واضح للوصول إلى حل، سواء تضمن التوافق على البقاء في السلطة أو التوجه إلى انتخابات مبكرة، ولكنه تمسّك بإطار قانوني، لم يصمد أمام العواصف. وعلى الرغم من هذه التطورات، اتجه خطاب "الإخوان"/ الرئيس السابق إلى بقاء الوضع القائم، مع احتفاظهم بموقفين متناقضين؛ افتقاد زمام المبادرة أو السيطرة على الدولة، وعدم الاستجابة لمطالب المحتجين.
وفي اتجاه آخر، اتخذت تصريحات الجيش اتجاهاً تصاعدياً، بدأت بمهلة وزير الدفاع في 23
 يونيو/ حزيران، المتضمنة إمهال كل الأطراف أسبوعاً للتوافق على حل الأزمة، ثم بياني القوات المسلحة في 1 و3 يوليو، وهي تشير إلى درجة كبيرة من التماسك والوضوح، في تعاملها مع الأزمة، خصوصاً أنها ترافقت مع لقاءاتٍ مباشرة، بلغت سبعة اجتماعات، بين وزير الدفاع ورئيس الجمهورية، وقد رسم بيان القوات المسلحة، 1 يوليو/ تموز 2013، خطين رئيسيين للوضع السياسي، يتمثل الأول في وجود ملامح إرادة شعبية، تُلزم السلطة القائمة بالرد على مطالب المحتجين في اليوم السابق. والثاني أن الجيش سيكون طرفاً رئيساً في "معادلة المستقبل"، ما يشير، بشكل واضح، إلى أن وضع دستور 2012 ومؤسساته صار مسألة خلافٍ سياسي، وتراجعت حجيته القانونية مع عدم قدرة السلطة على احتواء الاحتجاج، أو تقديم حل سياسي ناجز. ولذلك انتقل بيان الجيش إلى مرحلة أخرى، ليؤكّد رؤيةٍ للخروج من الأزمة، تقوم فكرتها على الإنذار السياسي، بعد تأخر السلطة في احتواء الاحتجاج. وهنا، ركز على خيارين، إما ضرورة حل الأزمة في أقل وقت ممكن، وحدد 48 ساعة "فرصة أخيرة" أو يتجه الجيش إلى إعلان مسار انتقالي آخر.
وعلى الرغم من لغة الحسم الواضحة، تبدو الحاجة لتفسير انتظار جماعة الإخوان وبعض مجموعات الإسلاميين بيانا آخر، يتم فيه الإعلان عن إزاحة السلطة، فلم يكن مفهوماً سر التمسّك بالسلطة، فيما حجية المشروعية القانونية لم تعد تفسر، وحدها، الحق في الشرعية، سواء بسبب محدودية إدراك التغيرات المتلاحقة، أو بفقدان القدرة على توفير حل لوقف تداعي مؤسسات الدولة والصراع الاجتماعي. وهنا، لا يعطي الخلاف حول أجل الدعوة إلى انتخابات مبكرة تفسيراً منطقياً أو أخلاقياً.
في ظل هذه التعقيدات، لم يكن في وسع شيخ الأزهر التدخل لفرض أمر واقع، في حين أن دوره يقتصر على استخلاص الرأي واقتراح الحلول. وبمقابلة خطاب كل من شيخ الأزهر ومنتقديه، يمكن ملاحظة أن تقييم الأزهر ارتبط بتحقيق المصالح العاجلة، والنظر في المآلات بحقن الدماء ووقف الصراع الاجتماعي ـ السياسي، كما أثبت قدرةً على تقديم قراءة تحديثية تتلاقى مع التغيرات والأحوال السياسية، فيما أن تقييم مخالفيه لم يقدّم قراءة متماسكة للتغيرات المتسارعة، وظلوا أسرى النزاع على تفسير المرجعية الإسلامية أو تمثيلها.

5DF040BC-1DB4-4A19-BAE0-BB5A6E4C1C83
خيري عمر

استاذ العلوم السياسية في جامعة صقريا، حصل على الدكتوراة والماجستير في العلوم السياسية من جامعة القاهرة، وعمل باحثاً في عدة مراكز بحثية. ونشر مقالات وبحوثاً عديدة عن السياسية في أفريقيا ومصر والشرق الأوسط .