العلاقات الإثنية بعد اتفاق السلام في إثيوبيا

العلاقات الإثنية بعد اتفاق السلام في إثيوبيا... سؤال التماسك الديني والاجتماعي

05 فبراير 2024

حشد من الأورومو يتجمّعون لاحتفال على ضفاف بحيرة في بيشوفتو الإثيوبية (8/10/2023/فرانس برس)

+ الخط -

على الرغم من توقيع اتفاق السلام لوقف الحرب في إقليم تيغراي في إثيوبيا، نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، زاد مناخ التوتر الإثني والتمرّد على السلطة المركزية، فخلال العام الماضي، لم يحدُث تقدّم ملموسٌ في تهدئة الصراع، بل تبنت الحكومة سياسة خارجية توسعية للوصول إلى البحر الأحمر. تأتي هذه السياسات في ظل تراجع القوة الشاملة للدولة، مما يثير النقاش بشأن كفاءة السياسة الداخلية في دعم التماسك الاجتماعي والديني، وهنا، تُساعد مناقشة اتجاهات العلاقات الإثنية والدينية والاقتصادية على الاقتراب من مدى قدرة السياسة العامة على توظيف الموارد والتكيف مع قضايا السلام والحرب الأهلية.
من وجهة أساسية، انشغل اتفاق السلام بين الحكومة الفيدرالية وجبهة تيغراي (TPLF) لوقف الأعمال العدائية (CoHA) وترتيب الوضع المؤقت بعد الحرب. ووفق مقتضيات القبول المتبادل، ألغى تصنيف جبهة تيغراي منظمة إرهابية واعتبارها شريكاً في مبادرة العدالة الانتقالية وتدابير بناء الثقة، ورغم أهمية هذه الترتيبات، فقد سكت عن نزاع جوهري حول تبعية ثلاث مناطق، تم ضمها لإقليم تيغراي منذ 1991، وحالياً، تقع تحت سيطرة قوات الدفاع الإثيوبية (ENDF) وقوات الدفاع الإريترية، مما يوفر بيئة مناسبة للصراع بسبب الخلاف ما بين الوضعين الدستوري والعسكري. 
تبلورت بيئة التوتر والصراع لوجود تناقضيْن رئيسيين؛ انتهاء حصار تيغراي من دون تقويض البنية الإدارية والعسكرية في تيغراي، وتوسيع صلاحيات "قوة الدفاع الوطني الإثيوبية". وفرت هذه النتائج بيئة مناسبة للاحتقان الإثني، سواء بسبب انتشار السلاح في الأقاليم الرئيسية أو لتمكين الأمهرا من الشؤون العسكرية في الدولة. وبمرو الوقت، زاد شعور الجماعات الثلاث، الأورمو والأمهرا والتيغراي بالتهديد الجديد من نتائج اتفاق السلام، ولذلك، اتجهت إلى اتخاذ مواقف متقاربة للتمرّد على الحكومة المركزية.

أدّى وقف الحرب عبر اتفاق السلام لبقاء جبهة تيغراي ضمن الفاعلين في السياسة الإثيوبية

بدت تداعيات اتفاق السلام في انكشاف الحكومة الفيدرالية، فقد أدى استبعاد قوات الأمهرا والعفر وقوات الدفاع الإريترية من اتفاق السلام لتراجع داعمي الحكومة الإثيوبية لعامليْن؛ كان الأول متمثلاً في انهيار تحالف 2018 ضد تيغراي وتحوله إلى حالة عدائية فيما بين الجماعات الإثنية الكبرى، وشعوراً بالخيانة، بسبب تفضيل الولايات المتحدة إنقاذ جبهة تيغراي قوةً سياسيةً موثوقاً بها، وتجاهل حقوق الأمهرا في المناطق المتنازع عليها في تيغراي، كما شكّل توجّه إثيوبيا للاعتراف بـ "أرض الصومال" عملاً عدائياً مع كلٍ من الصومال وإريتريا. أما الثاني، فكان في اعتماد أبي أحمد على أحزابٍ هامشيةٍ لا تساعد على تمكين السلطة، فحزب الازدهار أقرب إلى تركيبة من مجموعات منشقة عن الأحزاب والمجموعات المُسلحة المحلية، ومنها الاعتماد على المنشقين القدامى لجبهة تيغراي.
على أية حال، أدّى وقف الحرب عبر اتفاق السلام لبقاء جبهة تيغراي ضمن الفاعلين في السياسة الإثيوبية، فهي تمثّل قاعدة إنتاج النخبة في تيغراي على مدى 50 عاماً، وبالتالي، تواجه محاولات استبعادها صعوبات كثيرة، ولذلك، تلقى الحكومة المؤقّتة صعوباتٍ في التغلغل داخل هيئات السلطة والمجتمع المحلي. وحتى سبتمبر/ أيلول الماضي، لم تتمكن من إدارة إقليم تيغراي، لوجود مشكلات هيكلية، كان أهمها مُمانعة جبهة تيغراي في تسليم أجهزة الحكومة المحلية وإثارة وجود القوات الأمهرية والإريترية في مناطق غرب إقليم تيغراي.

يتزايد تباين المجموعات السكانية الكبرى، فهناك نزاعات الحدود الإدارية والسياسية مع دول الجوار

القابليّة للاندماج الوطني
ومع تَعدد أنماط الصراع، يمكن قراءة عدم الاستقرار تعبيراً عن التململ من وحدة الدولة أو نظام الحكم، ولذلك، تساعد مقاربة المصالح والأعباء للدلالة على القابلية للاندماج الوطني. على مستوى جماعة الأمهرا، فإنه منذ وصول أبي أحمد للسلطة، خسرت الجماعة جزءاً كبيراً من النخبة المؤهلة للمناصب المحلية والوطنية، حيث قُتل عديد من القادة العسكريين والمسؤولين رفيعي المستوى، بمن في ذلك رئيس الإقليم ورؤساء كثيرون من الإدارات المدنية والعسكرية. ينطبق هذا الوضع على جماعتي الأورومو والتيغراي، حيث لم تكن صيغة الوحدة الإثيوبية متوافقة مع تطلعات المشاركة في السلطة والثروة. ولعل طرح الاستفتاء لتقرير مصير مناطق التيغراي، تعبير عن استمرار الأزمات التاريخية بين المجتمع في إثيوبيا.
ومع تعدّد مصادر الصراع، يتزايد تباين المجموعات السكانية الكبرى، فهناك نزاعات الحدود الإدارية والسياسية مع دول الجوار. ويساهم وضوح الوعي القومي، نتيجة الفيدرالية الإثنية، في تراجع رغبة القوميات في الانضواء تحت مشروع "التآزر" وتململها من أعباء الوحدة، ويظهر تعارض المصالح في تكرار تحالف جماعتين أو أكثر ضد الجماعة الإثنية الحاكمة، فبعد وفاة مَلَس زيناوي، تجاهل الأمهرا والأورومو خلافاتهم لإزاحة جبهة تيغراي من السلطة، وكان وصول أبي أحمد ثمرة تحالف لا تختلف تركيبته عن جوهر تحالف الجبهة الثورية.
كما يكشف التوتر بين الجماعات الثلاث عن قابلية إثيوبيا للبقاء في صراعات دائمة، فمنذ تولى أبي أحمد منصبه في 2018، تزايدت الاشتباكات على طول الحدود الإقليمية، وتحوّلت إلى حرب بينها في نوفمبر/ تشرين الثاني 2021، ولاحقاً، تحولت إلى حالات تمرّد إثني في كلٍّ من الأقاليم الثلاثة، لتواجه الحكومة تحدّي قوة المعارضة، نتيجة تماسك جبهة تيغراي وتزايد تأثير المعارضة في أراضي الأورومو والأمهرا، حيث تحدث ثنائية الاشتباك بين الجماعات المسلحة والحكومة، فمن جهة، شملت عمليات التمرّد وحدات الجيش الفيدرالي، بجانب استهداف الجيش الفيدرالي واغتيال المسؤولين المحليين وقطع الطرق، وتعطيل المدارس والجامعات. وفي المقابل، ومن جهة أخرى، رصد تقرير لجنة حقوق الإنسان الإثيوبية (EHRC)، أن إقليم الأمهرا شهد، يوليو/ تموز ـ أكتوبر/ تشرين الأول 2023، قتل العشرات بطائرات مُسيّرة، كما تم تفتيش المنازل على نطاق واسع.

تعيش إثيوبيا حالة إضعاف مُتبادل بين القوميات، تغذّيها تطلعات استعادة الإمبراطورية والمركزية الأرثوذكسية أو تصاعد التعبير القومي

يوفّر هذا السياق المناخ الملائم لتحويل الاحتجاج إلى أعمال عنف واعتداء على المسؤولين المحليين. وتصاعد التوتر بين الأمهرا والأورومو على خلفية التطلع لاستعادة المجد التاريخي أو تثبيت المكانة في مركز الدولة، لتتسع عمليات تمرد منظمة فانو في الأمهرا وجيش تحرير الأورومو وغيرهما من المجموعات المسلحة الناشئة، لتنتشر الاشتباكات في المدن الكبرى والعاصمة. ورغم افتقار المجموعات لقيادة مركزية أو تسليح جيد، تذهب التقديرات الإريترية إلى عدم قدرة الجيش الفيدرالي على القضاء عليها.

الانتماء الديني والصراع
وفي ظل محدودية نجاح الحل العسكري، وتعثّر اجتماعات المصالحة، تعيش إثيوبيا حالة إضعاف مُتبادل بين القوميات، تغذّيها تطلعات استعادة الإمبراطورية والمركزية الأرثوذكسية أو تصاعد التعبير القومي لكل الجماعات الإثنية. وهنا، تواجه الحكومة المركزية صعوبةً في التغلغل داخل الأقاليم، ما يجعل السياسة العامة أكثر اعتماداً على السلطوية، مما يزيد من فرص اندلاع الصراع بين الجماعات الرئيسية والسعي لتوطيد نفوذها في أديس أبابا والتأثير على مكانة رئيس الوزراء، أبي أحمد، وتوجيه السياسة الحكومية.
وباعتبار منصب رئيس الوزراء رابطة أساسية في تماسك الدولة، يسمح المنظور الاجتماعي والديني بالاقتراب من العوامل التي تؤثّر على مكانة أبي أحمد، وهنا، يمكن الإشارة لمشكلتي؛ اختلاطه العرقي والانتماء للكنيسة البروتستانتية، وتشكل هذه الوضعية واحدة من مصادر ضعف رئيس الوزراء، حيث لا يتمتع بالنقاء العرقي للحكام التقليديين أو ينتمي إلى مذهبهم الديني، ومع تصاعد الأزمات، يزداد توقع انصراف جماعتي الأورومو والأمهرا لتأييد ذوي النقاء العرقي والديني. ترجع جذور هذه المشكلات لمرحلة الفيدرالية الإثنية (1991 – 2018)، حيث لم يصاحب السماح بالأنشطة الدينية وجود أطر لتسوية الخلافات أو وضع ضمانات لتحقيق المساواة في ممارسة الشعائر الدينية. على مدى هذه المرحلة، كان التوسّع في نشر البروتستانتية في الجنوب ثم الشمال على حساب الأرثوذكسية والإسلام وتحت حماية الدولة.

سمحت الحكومة بظهور المجتمع المسلم ومؤسّساته، ليس تعبيراً عن الهوية بقدر الحاجة للتضامن ضد الأرثوذكسية

تلازمت هذه التغيّرات مع حرص الطوائف على إبراز الرموز والشعائر الدينية والتعبير عنها في الأماكن المشتركة والمباني الحكومية والممارسات اليومية. تحوّلت هذه الممارسات لسياسة دينية، عندما سمح أبي أحمد بمناقشة الدين في المجال العام. كان هدفه الأساسي تثبيت البروتستانتية كواحدة من مكونات الأديان، واجهت الكنيسة الأرثوذكسية هذه التطوّرات عبر سياسات مذهبية، حيث قرّرت الحد من بناء الكنائس البروتستانتية والمساجد في مناطق الأرثوذكس التاريخية، ما يوفّر أرضية للمعاملة بالمثل في مناطق المسلمين والبروتستانت.
على هامش هذه السياسة، سمحت الحكومة بظهور المجتمع المسلم ومؤسّساته، ليس تعبيراً عن الهوية بقدر الحاجة للتضامن ضد الأرثوذكسية. ومع اتساع الخدمة المسيحية البروتستانتية، يتبلور مسار التنافس/ الصراع الديني في مناطق التماسّ بين المجموعات الدينية، وتكون أكثر حدة في مناطق حديثة انتشار المسيحية بمذهبيها، كما في الإقليم الصومالي في 2018 والهجوم على المسلمين في "غوندار" في 2022، وهي واحدة من حالات العداوة الدينية المنتشرة في مناطق كثيرة.

الاقتصاد بين تمويل السلام والحرب
على أية حال، يُمثل وجود المسلحين عبئاً على النفقات العامة، وتهديداً لحُكم أبي أحمد، فسيطرتهم المؤقتة على مدن كبرى وانتقالهم إلى الريف، هو المسار التقليدي لاستلهام نموذج "ثورة الفلاحين" على سردية استعادة حكم الأباطرة أو حقّ تقرير المصير. فمن جهة، يوفر انخفاض نسبة البطالة في الريف (5.2%) مقارنة بالمدن (17.9%)، فرصة لتدبير الموارد الذاتية بالتجنيد من بين سكان القرى والاحتفاظ بجزء من الموارد المحلية، كما أنه من جهة أخرى، مع ارتفاع تكلفة المعيشة في المدن، يكون الريف مناسباً للمراحل الأولى من التمرّد المُسلح، ليس فقط بسبب القدرة على الهروب من السلطة المركزية، ولكن لتزايد فرصة تطوير الحاضنة الاجتماعية.

لا تتسق المؤشّرات الاجتماعية والمالية، مع تبنّي الحكومة الفيدرالية سياسة خارجية توسعية

وعلى مستوى قدرة الحكومة على تغطية احتياجات سكّان المدن والقرى، يقع الاقتصاد الإثيوبي بين تخصيص الموارد للتنمية أو الإنفاق على الدفاع والأمن. وفق تقييم، برنامج الأمم المتحدة الإنمائي 2023، سادت توقعاتٌ بارتفاع نمو الاقتصاد الإثيوبي بانتهاء الحرب في تيغراي، غير أن استمرار التمرّد وتذبذب أداء قطاعات الإنتاج والخدمات، يحدّ من التفاؤل، وخصوصاً مع تراجع الاستثمار الأجنبي لأسباب هيكلية، تتعلق بمشكلات الأمن في المناطق الصناعية، وانتشار السرقة والقيود الإدارية. ورغم محاولات التعافي من صدمات السنوات الثلاث الماضية، ما زال تأثير مشكلات الاقتصاد الكُلي على تباطؤ قطاعي الصناعة والبناء، وتنامي تحدّيات صناعة الأسمنت، وقيود التصدير إلى السوق الأميركية وتأخر تشغيل المصانع.
ومع تباطؤ تطبيق اتفاق السلام واستمرار الاحتجاج/ التمرّد الإثني، يستمر استحواذ الإنفاق على الدفاع وخدمة الديون على السياسة المالية، ما يضع الاقتصاد الإثيوبي أمام فجوة تمويلية لشبكات الأمان الاجتماعي، لا تستطيع الحكومة الفيدرالية تلبية تطلعات الجماعات الإثنية للاهتمام بالإنفاق على مكافحة التمرد العرقي والتنافس الديني. تتضاعف هذه الأعباء مع تفاقم مشكلات الاقتصاد الكلي، بسبب ضعف القدرة على حشد الإيرادات الضريبية، ووصول مستوى التضخم إلى 34%. ويُعد دخول إثيوبيا 2024 بموازنة انكماشية حلّاً كافياً، لاستمرار عوامل تراجع الاستثمار الأجنبي والمتمثلة في نقص المعروض من الأراضي وخدمات النقل والأمن. ومع توقع انخفاض الجاذبية للاستثمار الأجنبي والقدرة على الاقتراض، يكون الاعتماد على المساعدات جزءاً مهماً في تمويل الحكومة.
على أية حال، تواجه إثيوبيا مشكلة هيكلية في تعبئة الموارد، سواء لضبط الصراع وتمويل السلام ودمج المسلحين، أو توزيع التنمية. وهنا، لا تتسق المؤشّرات الاجتماعية والمالية، مع تبنّي الحكومة الفيدرالية سياسة خارجية توسعية، حيث تقصر البيئة الاجتماعية والمالية عن تلبية أعباء التوتر الداخلي وتمويل السلام، فتضع هذه التطورات إثيوبيا على مفترق طرق، بين الاشتباكات اليومية والحرب الأهلية خصوصاً، ومع افتقار مشروع "التآزر" للقدرة على ملء فراغ "الفيدرالية الإثنية" أو التمتّع برافعة سياسية لاحتواء التصعيد بين الحكومة المركزية وحالات التمرد في الأقاليم، تتشكّل كوابح وحدة الدولة تحت مظلة حزب الازدهار، للقصور في تكوين التوازن بين الانتماء الوطني والانتماءات العرقية.

5DF040BC-1DB4-4A19-BAE0-BB5A6E4C1C83
خيري عمر

استاذ العلوم السياسية في جامعة صقريا، حصل على الدكتوراة والماجستير في العلوم السياسية من جامعة القاهرة، وعمل باحثاً في عدة مراكز بحثية. ونشر مقالات وبحوثاً عديدة عن السياسية في أفريقيا ومصر والشرق الأوسط .