أردوغان في الجزائر .. البروتوكول والاستراتيجية

أردوغان في الجزائر .. البروتوكول والاستراتيجية

02 فبراير 2020

أردوغان وتبون يتبادلان في الجزائر وثائق اتفافات ثنائية (26/1/2020/الأناضول)

+ الخط -
جاءت زيارة الرئيس التركي، رجب طيب أرودغان للجزائر، في وقتٍ زادت فيه الحاجة إلى تأكيد دور جديد للجزائر في الجوار وفي الإقليم، برفقة لاعب مهمّ، بالغ في تأكيد وجوده بمشروعه، أيّاً كان، ولعلّه يشكّل نوعاً من الإلهام بسبب تشابه ظروف التحوّل، وصنع (بل إيجاد) الدّور المنوط بالدّولة، صاحبة الاستراتيجية الموصلة إلى القوّة، والذي بلغته أنقرة في العشرين سنة الماضية، لتكون محورية في أكثر من ملفّ، وفي فضاء جيوسياسي شاسع جداً.
اختارت الدّولتان اللّحظة المثلى للالتقاء، في الجزائر، بعد لقاء جرى أسبوعاً قبل ذلك، في برلين، على هامش قمّة خاصّة بليبيا، وهو لقاء حاول الطّرفان استثماره للاطّلاع على مقاربة كلّ منهما للقضايا في الإقليم، إضافة إلى حزمة من الاتفاقات الخاصة بالشأن الاقتصادي، قد ترفع المبادلات إلى نحو خمسة مليارات دولار في غضون الأعوام المقبلة.
في العادة، عندما تحدث زيارة بين دولتين، نتحدّث عن مكاسب/ مصالح كلّ طرف منهما، وعلى المستويات كافة، وهو، بالنسبة إلى هذه الحالة، ما يمكن استشفافه من ملفاتٍ تُطرح، ومقارباتٍ يُتفاوض بشأنها من موقع معرفة كل طرفٍ بوزنه، حقيقة، ليكون الطرح موضوعياً موصلاً إلى تجسيد تلك المكاسب وتعظيمها. وبالنسبة إلى زيارة أردوغان للجزائر، هناك ملفّان حيويان، الاقتصادي والأمني/ العسكري الخاص بليبيا، يجمعان مصالح الطرفين، وهما ملفان يجمعان شتات اهتمامات البلدين، وربما استحوذا على جملة المحادثات بين الرّئيسين، الجزائري عبد المجيد تبون وضيفه التركي أردوغان.
لننظر، بدايةً، أين مصالح دولةٍ مثل تركيا تتحرّك، منذ قرابة عقدين، على أكثر من فضاء وتحقّق الأرقام الفلكية، على المستوى الاقتصادي، بالنسبة إلى دولة متوسّطة القوة، مقارنةً بوضعها 
السابق القريب من الإفلاس، نهاية تسعينيات القرن الماضي، من دون الحديث، طبعاً، عن التحالفات مع القوى العظمى، روسيا والصين، على خلفية خلافاتٍ مع الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي (الناتو) في ملفي الأسلحة (اقتناء المنظومة الصاروخية أس 400) والانتشار في ساحة صراع حدودية، في شمال سورية (عمليتا نبع السلام وشرق الفرات). ثمّ أين تكمن مصالح الجزائر، المهتمّة والمعنيّة بكلّ ما يحدث في غرب المتوسط والمنطقة الساحلية – الصحراوية، إضافة إلى التهديد الذي يمثله استمرار الصراع في ليبيا وامتداده المحتمل، إذا سقطت طرابلس في أيادي خليفة حفتر، إلى الحدود الشرقية الجنوبية للجزائر التي تتشارك قرابة الألف كيلومتر من الحدود مع ليبيا؟
للإجابة عن السّؤالين، يجب أن نتعرّف، أيضاً، إلى وزن كل من البلدين في الإقليم، إذ إنّ تجسيد تلك المصالح التي يرافع كلّ منهما عنها مرجعيته انخراط كلٍّ منهما في قضايا الإقليم (الشرق الأوسط)، في العقدين الأخيرين، حيث كان الحضور التّركي كبيراً، في حين أن الجزائر سجلت حضوراً خافتاً، ثم غياباً يكاد يكون كاملاً و تاماً، بسبب ظروف داخلية اكتفت فيها الجزائر باحتواء التّهديدات في داخل حدودها من دون الذهاب إلى المرافعة عن مخاطر اختراقات وصراعات تقع في دائرة الفضاء الجيوسياسي المباشر للبلاد أو عمقها الاستراتيجي.
برسم تلك الاهتمامات لكلّ من البلدين، نصل إلى اللقاء الذي جمع بينهما، حيث إنّ ما حاول أردوغان الحصول عليه هو صفقات اقتصادية وأخرى أمنية/ دفاعية في إطار استراتيجية مرسومة منذ مدّة، دونما اكتراث لمصالح الجزائر التّي يرى أنّها ستكون حجر عثرةٍ في اكتمال خطّته في ليبيا المرتكزة على احتواء الهجوم على طرابلس، ولكن بخلفية الدفاع عن مصالح طاقوية في شرق المتوسط، وعدم الالتفات إلى أنّ التدخلات في ليبيا، بإرسال جنود وأسلحة إلى حكومة الوفاق، سيزيد الطين بلّةً، في حين أنّ الجزائر ترافع لمنع تلك الاختراقات والتدخلات من جميع الأطراف، بما فيها الطرف التركي، وذلك كلّه يدخل ضمن الشرعية الدولية التي حظرت توريد الأسلحة، ودعت، في برلين، إلى هدنة، ثم حوار بين خليفة حفتر ورئيس حكومة الوفاق، فايز السراج، لإنهاء الصراع تماماً.
ولإبراز ذلك الاختلاف بين البلدين، قبل برلين ثمّ في أثناء زيارة أردوغان، سارعت الجزائر إلى التّركيز على إطار آخر، لتجسيد ما تراه منسجماً مع مصالحها، حيث انتظرت اجتماع الاتّحاد الأفريقي، في الكونغو، لتعرض خطّتها للحوار بين الفصائل اللّيبية، بعد استماعها إلى كلّ الأطراف التي زارت الجزائر والمنخرطة في القضية الليبية، تدخّلاً وتوريداً للسّلاح.
إذا كانت المصالح متناقضة إلى هذه الدرجة بين البلدين، وبما أنّ القضية الليبية شائكة جداً، إضافة إلى تداخلها مع استراتيجية تركيا للاستحواذ على حصّتها من غاز شرق المتوسط، فانّ ثمّة نقطة التقاء محورية، تتمثّل بأن التقارب، بالتّخفيف من وتيرة الصّراع في ليبيا، يمرّ، حتماً، عبر تجسيد المصالح الجزائرية الطاقوية، لأنّ منتدى غاز شرق المتوسط الملتئم، حديثاً في القاهرة، يشكّل تهديداً لكلّ منهما. وبالتّالي إنّ نقطة التّقاطع، هنا، هي الطّاقة، أي هناك إمكانية لمقايضة مصالح في ليبيا بتحجيم الدور التركي التدخلي فيها بإطلاق يد تركيا في عرض المياه الليبية، القريبة من المياه الجزائرية، ولكن بما يخدم مستقبل الأسواق الأوروبية التي تُعَدّ الزبون الأساسي للغاز الجزائري.
طبعاً، لا تنظر العلاقات الدولية بعين الإرادات الحالمة، بقدر ما ترتكز على الوزن، الإدراك 
والاستراتيجية. لهذا كان السّؤالان بشأن وزني تركيا والجزائر، ثم محاولة التركيز على إمكانية التقاطع في المصالح، وهو ما تحتاج الجزائر إلى تأكيده، الآن، خصوصاً أنها تحدثت عن إرادة تغييب تونس في اجتماع دول جوار ليبيا المنعقد في الجزائر، إضافة إلى ضمّها مالي باعتبارها امتداداً، بما يجري فيها، للصراع الليبي، وربما، إشارة إلى فاعل آخر متدخّل في ليبيا (فرنسا)، فالرّؤية الجزائرية بدأت في التبلور، والخط الأحمر (سقوط طرابلس) الذي تحدّث عنه الرئيس عبد المجيد تبّون، قرار حقيقي، وليس تصريحاً من دون خلفية استراتيجية.
تحتاج تركيا إلى تلك الجدّية في التعاطي مع ملفّات حيوية (ليبيا والطّاقة). ولهذا تحرّك أردوغان بسرعة على محوري تونس الجزائر، باعتبار أنّ في البلدين قيادتين جديدتين تعبّران، حتماً، على تغيّر في الرّؤية والإدراك لإشكالات الإقليم. وربما يترجم ذلك العمق الاستراتيجي الذي هندسه رئيس الوزراء التركي السابق، أحمد داود أوغلو، راسم التمدّد التّركي في السياسة الخارجية، منذ تولّي حزب العدالة والتّنمية الحكم في أنقرة، ولكن ليس بالمعنى التّركي الخالص، بل بجدّية وجود عمق استراتيجي لدولةٍ كبيرة بحجم الجزائر تزداد قوة، بالعودة إلى التفاعل مع قضايا الإقليم وبرؤية مشتركة تونسية، ومستقبلاً، مغربية بل مغاربية، بإعادة الحياة للمنتظم المغاربي، اتحاد المغرب العربي، الأحق بالتدخل لإنهاء الصراع في ليبيا.
على هذا، لم تكن تلك الزيارة التركية للجزائر، بروتوكولية، بل اختلط فيها الاستراتيجي مع الاقتصادي، كذلك إنّ الجزائر، بهذه الزيارة، أرسلت إشارات إلى بعض الفاعلين المنخرطين في ليبيا وصراعها الحالي، أنّها كانت تقصد المعنى الحقيقي للخط الأحمر بشأن الوصول إلى طرابلس، ولكن ذلك يحتاج، مع اختراقات الهدنة، واستمرار توريد الأسلحة إلى طرفي الصراع في ليبيا، إلى جهود أكبر، ومع فاعلين لهم تأثير أكبر للنجاح في احتواء الصراع الليبي وتداعياته. ولا يمكن أن يحدث ذلك دون المرافعة عن قضايا متصلة بالملف، وفي مقدمتها الاستفادة من الفشل الفرنسي المستمر في الساحل، لإقرار رؤيةٍ للعمق الاستراتيجي، تليق بمكانةٍ وقدراتٍ ومؤهلاتٍ جزائريةٍ ومغاربية مقبلة.