الفشل الفلسطيني وحديث الصفقة

الفشل الفلسطيني وحديث الصفقة

31 يناير 2020
+ الخط -
عاد الحديث الإعلامي والسياسي عن بنود صفقة القرن وخطواتها إلى واجهة الأحداث العربية والعالمية، وطبعا الفلسطينية، انطلاقا من الإعلان الأميركي عن إطلاقها والإفصاح عنها، كي تتعدّد القراءات لها، والدعوات إلى سبل مواجهتها، على الصعيدين، الرسمي والشعبي، فلسطينيا وعربيا، وربما عالميا. وهو ما يعيدنا إلى الأجواء نفسها، المصاحبة لجميع فصول مسلسل صفقة القرن، سيما فصل مؤتمر المنامة الذي تم الاحتفال بفشله فلسطينياً، وكأنه إعلان موت الصفقة سريريا قبل ولادتها؛ وفق توهمات القيادات الفلسطينية، بجميع مستوياتها التراتبية؛ وتنوعاتها السلطوية؛ في كل من غزة والضفة الغربية؛ والفصائلية كذلك في منظمة التحرير الفلسطينية أو خارجها. 
وكي لا يطول الحديث هنا في مسائل قد تمت الإضاءة عليها من فلسطينيين ومهتمين عديدين بالشأن الفلسطيني منذ مدة طويلة، تتم الإشارة إلى نقطتين، على درجة كبيرة من الأهمية: الأولى، ضرورة التصدّي للدعوات العبثية القائمة على منطق رد الفعل في التعامل مع الصفقة الأميركية الإعلامية الراهنة أو سواها. وتتمثل الثانية في توالي إخفاقات القيادات الفلسطينية من دون أي استثناء، حتى باتت ترهق كاهل جميع الفلسطينيين على اختلاف مواقعهم وانتماءاتهم وتوجهاتهم، كما تفقد القضية غالبية عناصر قوتها، وتضعها في مواقع أشد صعوبة. فقد حذّر عشرات، بل 
ربما مئات، المثقفين والسياسيين والصحفيين المتابعين للشأن الفلسطيني من خطيئة الانجرار خلف عناوين إعلامية كاذبة، كتوقيت إعلان صفقة القرن، وتأجيلاتها العديدة، ومؤتمر المنامة، وغيرها من عناوين سياسية وإعلامية واقتصادية، وخطورة البناء على فشل أو محدودية نجاح أي منها، وذلك باعتباره إنجازا فلسطينيا وفشلا مدويّا للصفقة، لأن الصفقة الحقيقية قد تمت المباشرة بتنفيذها على أرض الواقع منذ مدة طويلة، قد تعود إلى سنواتٍ سبقت تولّي دونالد ترامب مقاليد الرئاسة في الولايات المتحدة الأميركية، وإنْ كانت أكثر ظهورا وفجاجة في عهده، متمثلة في الاعتراف الأميركي بالقدس عاصمة للاحتلال، ونقل السفارة الأميركية إليها، وغير ذلك من القرارات الأميركية المجحفة بحق الفلسطينيين وقضيتهم العادلة. وعليه، خطرها الحقيقي غير مرتبط بتوقيت إعلانها الرسمي، حتى لو تأخر سنوات عديدة، ولا حتى بالموقف الرسمي الدولي منها، إن لم يترافق مع تدابير وإجراءات ملموسة، لذا لا قيمة للرفض الأوروبي بعض الخطوات الأميركية المجحفة بحقوقنا، والتي تنتهك القانون الدولي، ما دامت لا تجرؤ على مواجهتها، إن لم نقل إنها تتماشى معها، وربما تمهد الطريق لتنفيذها وانتشارها وتحوّلها معطى ثابتا غير قابل للمس، كغيرها من الوقائع والحقائق المدعمة بالأدلة القانونية عن انتهاكات الاحتلال، وعن حقوقنا المسلوبة، فردية كانت أم جماعية.
وبالتالي، لا يصحّ التحضير؛ على فرض هناك تحضير رسمي؛ لمواجهة الصفقة على اعتبارها معطى منفصلا ومحدّدا وآنيا يتطلب رد فعل مشابها، كي يحافظ على الوضع الذي سبق إعلانها أو الحديث حولها، كما لا يجوز اعتبارها قضيةً إعلامية، أو حتى سياسية، مرتبطة بشخص ترامب، وربما نتنياهو أو أي شخصية كانت، بل لا بد من رؤية الصفقة بصورتها الكاملة والمتكاملة ميدانيا وسياسيا وإعلاميا، من خلال الممارسات والإجراءات العملية التي تعمل على تمييع القضية الفلسطينية وتصفيتها، بل كي تلغيها من الأساس، وتحولها إلى قضايا أفراد بلا وطن، أو حقوق سياسية بسيطة كحق الانتخاب والترشح، وعاطلين عن العمل، فاقدين أي أمل بمستقبل اقتصادي زاهر، بعيداً عن جذر القضية، قضية شعب طرد وشرد من أرضه بفعل إجرام الاحتلال وداعميه الدوليين، المباشر وغير المباشر. لذا من غير المعقول أن تلقي القيادات الفلسطينية الرسمية، وغير الرسمية، بمسؤولية مواجهة صفقة القرن على أبناء الشعب الفلسطيني والعربي والإنسانيين من جموع سكان الكرة الأرضية فقط، بل لا بد من كنس أخطاء الماضيين، القريب والبعيد، المتمثلة بمسار أوسلو المخزي، وبإقرار البرنامج المرحلي الممهد لها، وبالقبول بالشرعية الدولية المبنية على توصيات قوى الانتداب البريطاني، بدلاً من المطالبة بصياغة قرارٍ يستند إلى حق الشعوب، بكل أجيالها، في تقرير مصيرها، وفي استرجاع حقوقها المدنية والاجتماعية والمادية مهما طال الزمن. كما لا بد من طي صفحة احتكار التمثيل الفلسطيني عبر تقديس أطر سياسية، كسلطتي غزة والضفة، أو حتى منظمة التحرير، مهما استفحل فيها الفسادان، السياسي والمالي، ومهما ابتعدت عن تمثيل مجمل أبناء الشعب الفلسطيني، وبغض النظر عن انتماءاتهم وأفكارهم وأماكن وجودهم.
ومن ناحية أخرى، أثبتت مئات التجارب الفلسطينية، خصوصا في المرحلة التي أعقبت الحديث 
عن صفقة القرن، مدى فشل جميع القيادات الفلسطينية في خط نهج نضالي واضح المعالم، يشمل جميع الفلسطينيين، ويعمل على استعادة جميع حقوقنا المستلبة، يقف سدّاً منيعا أمام المؤامرات التي تُحاك ضد القضية والشعب الفلسطيني. وبالتالي، حان الوقت كي تعترف هذه القيادات بفشلها الساحق، وعجزها عن أداء الحد الأدنى من المهام المنوطة بها، قيادات سياسية تمثل جموع الفلسطينيين بوصفها هياكل السلطة والمنظمة، أو حتى فئوية أو أيديولوجية وحزبية، كالفصائل والقوى الوطنية، فقد فشلوا جميعا في فهم المرحلة، وفي تحديد خطورتها، بل فشلوا حتى في وضع مجرّد رؤية نظرية لسبل استعادة زمام المبادرة، والخروج من التيه الذي يقبعون فيه، والتحرّر من قيود الداعمين الإقليميين والدوليين، بغض النظر عن ماهية الطرف أو الأطراف التي تتلاعب وتتحكم بكل من هذه القوى العديدة. وعليه، حان الوقت كي يتنحّوا جميعا، ويفسحوا المجال أمام جيل جديد، قد يكون قادرا على تصحيح الأخطاء التي كبّلونا، وكبّلوا أنفسهم بها.
حان الوقت كي نقرّ بأننا في مواجهة مستمرة مع مؤامرة ومكيدة دوليتين، تعملان على سلبنا حقنا في الأرض والعودة وتقرير المصير منذ وعد بلفور، وما صفقة القرن إلا فصل جديد من فصولها، كما آن أوان اعتراف القيادات الفلسطينية بالفشل الذريع الذي تتحمّل مسؤوليته، كلٌّ وفقا لموقعه وصلاحياته، فشل يحمّلنا مزيدا من الأعباء والصعاب، ويحتّم علينا طي هذه الصفحة من تاريخنا النضالي، بمراجعة نقدية جريئة وقاسية وواضحة، متحرّرة من قدسية الأفراد والأطر الناظمة لصالح مقدّس ثابت ووحيد يجسّده حق الفلسطينيين في الأرض والسيادة وتقرير المصير.