الجبابرة السبع وسورية

الجبابرة السبع وسورية

31 اغسطس 2019
+ الخط -
أمن، اقتصاد، مكافحة اللامساواة. هذا هو الشعار الذي أطلقه الرئيس الفرنسي، ماكرون، عنوانا لقمة الدول الصناعية السبع المنعقد أخيرا في بياريتس الفرنسية، وقال "يجب أن يتجسّد هذا الالتزام في قيام الدول بأنشطة حازمة من أجل إحلال السلام ومكافحة التهديدات الأمنية والأعمال الإرهابية التي تقوّض أُسس مجتمعاتنا". 
قد يبدو هذا الكلام المعسول واعدًا للوهلة الأولى، وقد يستبشر فقراء الأرض وشعوب الدول الرازحة تحت نير الفقر والجهل والنزاعات والحروب والتخلف والتبعية، ويظنون أن زعماء العالم "الجبار" يفكّرون بهم وبمصيرهم، لكنهم واهمون للأسف، واهمون بشدة، فهذه الدول القوية متورّطة بشتى الطرق بالمصير الأسود لشعوب عديدة، وبالمصير الأكثر سوادًا للبشرية جمعاء ومصير كوكبهم الذي أمعنوا في انتهاكه، وسلبه أسباب الحياة التي يقدّمها لكائناته.
تفيد الإحصائيات بأن الناتج المحلي للدول المشاركة في اجتماع القمة يمثل ما يقارب 40% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، فيما تبلغ نسبة شعوب الدول السبع 10% فقط من عدد سكان العالم. وتقدر الثروة الصافية لهذه الدول بـ 58% من الثروة العالمية، أي حوالي 317 تريليار دولار أميركي. إنها لغة الأرقام.
لا يمكن تجاهل أي حدث دولي، أو الحديث عنه، من دون ربطه بالحالة السورية، فالحرب فيها طالت واستطالت، وبات واضحًا للقاصي والداني أن أقطاب العالم وأتباعهم في المحيط القريب متورّطون فيها، وأن النزاعات لم تصل بعد إلى بوادر اتفاق على الحصص أو التفاهمات، حتى يحلم السوريون بحلٍّ قريب لمأساتهم التي تشكل ربما أكبر مأساةٍ في التاريخ الحديث. وليس خافيًا أيضًا أن الهم الاقتصادي والاتفاق على تقاسم المصالح وعقد الاتفاقات والشراكات وتنشيط الاستثمار وتقاسم حصصه بين تلك الدول هو الشاغل الأكبر، وهي، في الواقع، تستثمر في الحرب السورية، كما في حروب المنطقة العربية وغيرها من البقع المشتعلة في العالم، إذ
 صارت سورية ميدانًا ليس فقط لبيع الأسلحة، بل لتجريب أجيالها الجديدة. وفي المقابل، لم تسلم سورية وشعبها من رهاناتهم ومراهناتهم، وتصفية حساباتهم فوق أرضها، حتى صار مصيرها متعلقًا بمصير الاتفاق النووي الإيراني، وصار الشعب السوري رهين العقوبات التي تديرها سياساتٌ لا يهمها مصير الشعوب وأمنهم وحياتهم وصحتهم ومستقبل أبنائهم، سياسات تديرها أميركا وتوازنها وفق ما ستحلب من دول منطقة الخليج. صحيح أنها اليوم توحي بأنها تحقق طموح تلك الدول التي تريد من "حليفتها" أميركا أن تكسر شوكة إيران في المنطقة، لكن ليس لأميركا صداقات دائمة أو حلفاء دائمون. تضع أميركا استراتيجياتٍ، وتسعى إلى تنفيذها بتكتيكات تعرف كيف تديرها. واهم كل من يصدّق أنها حليفتهم إلى الأبد، إنها حليفة المال والثروات التي تدفع بصغار إليها والصفقات التي تعقدها.
بالنسبة للأمن، السوريون شعبٌ يرنو إلى تحقيق الأمن والأمان لكل البشرية، لكنه يباد، ويدفع عن نصف العالم، بسبب جشع القوى الكبرى والاحتكارات العالمية وصراع الإرادات والمطامع والمصالح. اقتصاد؟ كان طموح الشعب السوري، كما أي شعبٍ يريد الحياة، أن يستثمر موارده ويدير شؤونه، ويشارك العالم حياة مزدهرة يسهم في صناعتها، وكان لديه ما يؤهله لأن ينهض باقتصادٍ يحفظ حياة أبنائه وكرامتهم ودولته، من ثروات باطنية وموارد متعدّدة، من أهمها الموارد البشرية التي بدّدتها الحرب، وراح قسم كبير من العقول التي هاجرت يبدع في أماكن أخرى، بعيدًا عن وطنه.
أما المساواة التي ينادي بها الرئيس الفرنسي، خصوصا المساواة الجندرية، فهي بالتأكيد مطلب ضروري للعالم كله، وإن بقاء المرأة مهمّشة سوف تنجم عنه مجتمعاتٌ راكدة، يزداد البون بينها وبين العالم الراكض في مسيرته وتقدّمه باضطراد. ولكن كيف السبيل إلى مكافحة اللامساواة التي يدعو إليها من دون تمكين المرأة الذي لا يمكن تحقيقه من دون تهيئة الظروف التي تمدّها بمقومات التمكين، وتساعدها في أن يكون لها دور فاعل حقيقي في الحياة، وليس دورًا خلّبيًا كما هو عليه واقع الحال بمنحها بعض الأماكن في الوظائف الاجتماعية أو الحكومية، أو التمثيل بشكلٍ يؤدّي رسالة إلى العالم بأن المرأة في أفضل حال في مجتمعاتنا، بينما الواقع يكذب هذا الخبر؟
أما الديمقراطية التي يرفعونها شعارًا، وعلّة للهيمنة على الشعوب ومقدّراتها، فتلك حجةٌ لم تعد تقنع أحدًا، حتى في بلدانهم باتت الديمقراطية مهدّدة، كيف يمكن تصديق تمسّكهم بها، وبأنها ناظم الحياة السياسية والاجتماعية وكل المفاصل في بلدانهم، بينما يتنكّب زعيم أكبر قوة في العالم، رئيس الولايات المتحدة دونالد ترامب، بتغذية العنصرية البغيضة، وإحياء تفوق الأبيض من جديد، بعد كل الأثمان التي دفعت من أجل تحرير الملوّنين من عبودية التفوق وعنصرية ممارسته؟ وأين هي هذه الدول الكبرى من ديمقراطية الشعوب التي تسطو عليها؟ هل حققت الدبابات الأميركية ديمقراطية للشعب العراقي؟ وهل تحققت في سورية؟ في المناطق التي تديرها فصائل تدعمها تلك الدول وأتباعها في المنطقة؟
آن للسوريين أن يفقدوا الأمل، ليس الأمل بأن أزمتهم الوجودية استعصت على الحل، بل الأمل من تلك الدول العاتية بجبروتها المتحالفة على الرغم من خصوماتها المستترة، وأن يقرأوا 
الواقع بشكل أكثر جدوى وفاعلية، أن يقرأوه بمنطق الأسئلة التي ستقدّم لهم إجاباتٍ يمكن أن تفيدهم أكثر من كل ما قاموا به سابقًا، وأهمّه الولاءات والتبعيات، وتصديق أن هناك أصدقاء لهم، أصدقاء الشعب السوري لم ينصروه، والأشخاص الذين تسنموا قيادة الأجسام والهيئات السياسية التي صادرت حق تمثيل إرادة الشعب، وقدّمت نفسها إلى العالم معارضة وطنية ضالعة بالسياسة ولعبها. ضيّعوا الشعب، وساهموا في تفتيت البلاد وتركها رهينة لإرادات الدول اللاعبة في مصيرنا، والداعمة للفصائل التي جرفت البلاد إلى مزيدٍ من الدم، ومزيد من القمع في أماكن سيطرتها، ولم تخجل من إظهار ولائها المطلق للأطراف الخارجية الداعمة. حتى الولاء دخل في حالة الارتياب، ولم يعد واضحًا، والدليل هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة) وتجبُّرها الحالي، الفصيل الذي هلل له رموز "المعارضة"، وبعضهم تبادل القبل مع قادته، بحجة أنهم مفصل حيوي في حراك الشعب، فهم "سيسقطون النظام" حتى لو كان الثمن إسقاط الوطن، جبهة النصرة المصنفة من كل الأطراف بأنها إرهابية، حتى من تركيا التي طالبتها بأن تحلّ نفسها بعد اتفاق سوتشي في سبتمبر/ أيلول 2018، لكنها اليوم تلعب لاعب المتمرّس في السياسة، الواثق من قوته، فأين هي تلك اليد الخفية التي تسندها وتدعمها وتمدّها بالعتاد والمقاتلين؟ سؤال جوهري بالنسبة للسوريين اليوم بعد سني الحرب المدمّرة، لو يُطرح بجدّيةٍ سوف يوصلهم الطرح إلى إجاباتٍ ربما تدفعهم إلى مراجعة تجاربهم ونقدها بدقة وحزم، فيما لو أرادوا صنع مصير ببداياتٍ جديدة، بداياتٍ تبنى على المشتركات الجامعة لهم، تلك التي وحدها يمكن أن تنقذ ما تبقى.
للدول السبع الصناعية حساباتها الأخرى، أصلاً هي تهتم بالحسابات فيما بينها، والحسابات فقط، حسابات ميزان التجارة والأرباح وكيف تُدار، لا يهم إن كانت عجلة الميزان تدور فوق أجساد الأوطان وتسحق الشعوب، المهم في النتيجة أن يكون الميزان قادرًا على حمل الصفقات والأرباح.