إلى "الخازوق"

إلى "الخازوق"

11 اغسطس 2019
+ الخط -
ضرب جبينه بيده، وهو يقهقه على طريقة فيثاغورس، بعد أن عرف، أخيرًا مقصدي، وصاح: "أووه عرفت .. تقصد دوّار الخازوق.. قل من الأول، يا رجل، إنك تريد دوّار الخازوق، فقد أعييتني".
نظرتُ إلى السائق بدهشة ممزوجة بخجل فطريّ يرفض أن يزايلني، كلما التقطت أذناي كلمة سوقيّة، فيما كان السائق الشاب قد طلب مني، مرّات عدة قبل ذلك، أن أكرّر وجهتي على مسمعه، وهو يدني أذنه من شفتيّ: "ماذا؟ إلى أين؟"، وفي المرات جميعها كانت إجابتي واحدة: "دوّار الجامعة التطبيقية".
لم يكن بيننا خلافٌ على المكان، بل على مسمّاه، فقد أصرّ هو على دوّار "الخازوق"، وأصررت أنا على "دوّار الجامعة التطبيقيّة"، الواقع في إحدى ضواحي العاصمة الأردنية، وهو دوّار عريضٌ يتوسطه قضيب معدنيّ شاهق الارتفاع، وحوله قضبانٌ أقلّ طولًا، مزينة بأشكال هندسية.
لا أنكر أن هذه الحادثة تتكرّر معي باستمرار، لكن بحكم أنني رجل "دوغري"، فقد كنت أسمّي الأماكن بالأسماء الرسمية التي تطلقها الحكومة. أما السائق، فقد كان يصر عن مسمّى شعبي أصبح شائعًا بين الناس.
قبل ذلك أطلق الأردنيون على شارع مكتظ بالمطاعم "شارع الجوعانين"، فيما يشير مسمّاه الرسمي إلى "شارع المدينة المنورة". وكذا الحال مع سوق في وسط البلد، ما تزال تسميه الحكومة "سبيل الحوريات"، ويسميه الشعب "سوق الحراميّة" أي "اللصوص"، والغريب أن بعض السيّاح صاروا يلتزمون بالمسمّيات الشعبية أيضًا، كأن يطلب أحدهم من السائق أن يوصله إلى "سوق الهراميّة"، وفق ما أكّده لي السائق نفسه، وهو يُعلمني ما لم أكن أعلمه عن عاصمةٍ لم أعد أعرف أسماء أماكنها، على الرغم من أننا كبرنا، معًا، أنا وهي.
عمومًا، يشعر المراقب للعلاقة القائمة بين الشعب الأردني وحكوماته أن ثمة ضربًا من النكايات والمماحكات المبطنة التي تجعل الشعب يرفض حتى المسميات الرسمية للأماكن، واستبدالها بأخرى أقرب تعبيرًا إلى أحواله ومقاماته؛ ففي مقام التدهور المعيشي، مثلًا، حيث أصبح الغلاء المستفحل رديفًا للحياة اليومية، والضرائب المتناسلة كبيض السمك شأنًا روتينيًّا معتادًا، يشعر المواطن حينها بأنه لم يعد يمشي على قدميه، بل على مؤخرته، متنقلًا من خازوقٍ إلى آخر، وفي "شارع الجوعانين"، تعبيرٌ آخر عن الجوع الذي بدأ يلامس طبقاتٍ اجتماعيةً مسحوقة.
أما "سوق الحرامية"، فربما كان هو أساس الاختلاف بين حكوماتٍ "رومانسية"، هيأ لها انفصالها المزمن عن هموم الشعب أن تسمّيه "سبيل الحوريات"، فيما رأى الشعب أنه "سوق الحراميّة"، لا لأن ما يباع فيه محض مسروقات، بل للدلالة على أن السوق أوسع من ذلك بكثير؛ إذ يستطيل ليشمل لصوصًا آخرين ببذلاتٍ رسمية، يضعون الوطن في جيوبهم وحقائبهم، ويعرضونه للبيع.
كما أنني على يقين أن هذه المماحكات القائمة بين طرفي معادلة الدولة لا تقتصر على بلد عربي دون آخر، على اعتبار أنها غدت نوعًا من التمرّد الشعبي المبطّن، حتى في تسميات المواضع والشوارع، فكيف يمكن لشعبٍ عربي مقموع، مثلًا، أن يقبل اسم "شارع الحرية"، ولآخر مهان أن يقبل "ميدان الكرامة"؟ كيف تقنع حكومات قُطريّة شعوبها بأن ثمّة دوّارا لـ "الوحدة العربية"، وآخر لـ"الجامعة العربية"... إلى آخر تلك المسمّيات الرسمية "المهيبة" التي توارثتها الأجيال تركاتٍ لا تقبل الصرف إلا في بنوك الإفلاس؟
باختصار، تريد الشعوب أن تضع النقاط على حروف المسمّيات، وفق ما تعيشه وتكتوي بلظاه، من دون تزييفٍ لوعيها، أو رش السكّر على قروحها، ولو كنت في موضع الحكومات العربية، لا سمح الله، لأعدت طبع خرائط الأماكن المحلية بمسمّياتها الشعبية هذه المرة، حتى لا يضيع الغريب، بعد أن ضاع القريب بالمسمّيات الرسمية، وسأبدأ بنفسي وأزيد في المرة المقبلة، حين يسألني السائق عن وجهتي فأجيب: "إلى الخازوق".
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.