فوضى المجال العام الافتراضي

فوضى المجال العام الافتراضي

01 اغسطس 2019
+ الخط -
خصَّص إيمانويل كاستلز الجزء الثالث من ثلاثيته "عصر المعلومات"، الصادرة في نهاية القرن الماضي (1999)، والمعنون "نهاية الألفية والتحولات العالمية والفاعلين الجدد"، لإبراز الدور الكبير الذي أصبحت تمارسه تقنيات التواصل الجديدة، في مختلف مظاهر الحياة، إذ أصبح مجتمع الشبكات عنواناً لبنية اجتماعية جديدة، تتميز بقدراتها الفائقة على اختراق عالم الوقائع، بنية شبكية تحاذي بنيات الواقع في جريانها وتحولاتها. وقد وجه الباحث عنايته إلى الأدوار التي أصبحت تمارسها، في عالمنا، الحركات الاحتجاجية الجديدة، سواء في المجال السياسي أو في المجال الثقافي والحقوقي والبيئي.. إلخ.
وعندما نصوِّب النظر نحو التفاعلات الجارية في المجال العام في مجتمعنا اليوم، ندرك أننا نواجه تفاعلاتٍ أخرى تقع في المجال الافتراضي، ساعية بدورها إلى المساهمة في توجيه الرأي العام، فتعمل الشبكات التي تنشأ لتركيب وبناء قضايا كثيرة، متصلة بما يجري داخل مجتمعنا، وضمن سياقات مشهدنا السياسي وشروطه. الأمر الذي يساهم في توسيع صور المشاركة السياسية.
يترتَّب عن عمليات التشبيك، وقد أصبحت تعمّ اليوم، كما أشير أعلاه، مختلف فضاءات المجال السياسي، تعبئة فئات من الفاعلين الجدد وتجنيدهم، ودفعهم، بصور مختلفة، إلى التموقع في المشهد السياسي، عن طريق استيعاب خيارات متصلة بقضايا الصراع السياسي في مجتمعنا. إلا أنه يجب ألا نغفل أن عملية التوسيع المذكورة تحصل في المجال العمومي الافتراضي،
 بقنواته ولغاته، ومختلف صور تفاعله مع تحوُّلات المجتمع والثقافة والقيم في عالمنا.. الأمر الذي يجعلنا نتساءل عن نوعية العلاقة التي تربط هذا المجال بالمجال السياسي الواقعي ومؤسساته؟ فإذا كان مؤكدا أن المجال العام الافتراضي ينشأ ويتطوَّر بمحاذاة المجال العام المرتبط بقضايا السياسة والمجتمع، وإشكالات الصراع السياسي في مختلف المجتمعات البشرية، وأن الولوج إلى مواقعه وشبكاته يتطلب استيعاب آليات ووسائط تمكِّن من ولوج أبوابه، والانخراط في أشكال من التفاعل مع ما هو مُتداول في عوالمه، فإن ذلك يدفع إلى التساؤل عن علاقة ما يجري، ويتم تداوُله داخل المجال العام الافتراضي، بتحولات المجال العمومي الفعلي واشتباكاته؟
تنبع أهمية هذا السؤال من أن منخرطين كثيرين في مجال الفضاء العمومي الافتراضي يَدَّعُون أنه لا صلة تجمعهم بمؤسسات المجال العام، كما تعكسها وتعبر عنها الأحزاب والنقابات وباقي التنظيمات المدنية المنخرطة، في مقاربة قضايا الشأن العام، السياسية والثقافية والاجتماعية. وهم ينتقدونها بقوة، معلنين أنها لم تعد صالحةً لمجابهة تحوُّلات المجال السياسي. وقبل الإجابة عن هذا السؤال، الفضاء العمومي الافتراضي يكتسح اليوم، شيئاً فشيئاً، مختلف قضايا الشأن العام خارج مقتضيات المؤسسات والقوانين التي أُنْشِئَت بهدف المشاركة والمساهمة في ضبط الدينامية السياسية للمجتمع وتقويتها. وهو يمتلئ بكثير من الصخب والفوضى، وتحضر فيه أصوات ومواقف يدّعي أصحابها استقلالهم عن مؤسسات المجتمع، أصوات تنتقد بشدة مختلف المؤسسات القائمة في المجتمع مُعْلِنَةً نهايتها.. إضافة إلى أن الفاعلين، في مواقعه العديدة ومساحاته اللامحدودة، يعبرون أحياناً عن بعض صلاتهم المتناقِضة والمعقَّدة بالمجال العمومي، الأمر الذي يجعلنا لا نتردَّد في القول إن المجال العمومي الافتراضي يعكس اليوم ضمن صور تحرّكه الجارية اختلاطاً مخيفاً. كما يعكس رهاناتٍ سياسية متناقضة، ولا علاقة لها أحياناً بأسئلة المجال السياسي وقضاياه، كما تعكسه وتعبر عنه المعطيات التي تجري في مجتمعاتنا. وما يزيد الأمر غموضاً الدور الذي أصبح يمارسه جنود المجال العمومي التقليدي في سجالات المجال الافتراضي، حيث أصبح لمختلف المؤسسات الحزبية فضاء افتراضي، ومليشيات مكلَّفة أساساً بتغذية هذا المجال بخيارات ومواقف، فترتَّبت عن كل ما ذكرنا سجالات مركَّبة داخل شبكات المجال العمومي الافتراضي.
نستطيع أن نتحدث عن فضاء عمومي افتراضي، بمقدار ما يمتلك من صلاتٍ مع المجال 
العمومي الفعلي، أو بمقدار ما يبتعد عنه. وفي الحالتين معاً، يصعب القول بالاستقلالية المطلقة للمجال العمومي الافتراضي عن المجال العمومي الواقعي، على الرغم من غياب المأسسة عن الديناميات والتفاعلات الحاصلة في الفضاءات الافتراضية. والإشارة هنا إلى تنوُّع مواقف الفاعلين الجدد (جنود الخفاء) وتناقضها، كما نريد وضع اليد على فاعلي المؤسسات المدنية، وقد نقلوا بعض جوانب معاركهم من المجال العمومي التقليدي إلى الشبكات، حيث بدأت تبرز معطيات واشتباكات جديدة، تساهم اليوم في تعقيد المهام والأهداف الموكولة للطرفين.
تدعونا الفوضى التي تملأ شبكات المجال الافتراضي إلى البحث أولاً في كيفية مأسسة أشكال التشارك القائمة، وصور الاحتجاج التي يفيض بها المجال العمومي الافتراضي؟ والسعي إلى إيجاد صيغ أفضل للحوار والتنسيق والعمل. كما يدعو إلى التساؤل عن كيفيات استيعاب فعاليات المجال العمومي المؤسسي ودمجها في عمليات التفاعل مع رواد شبكات التواصل، من أجل طريق يسمح بتوحيد الرؤية والخيوط بين فاعلي المجالين؟
C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".