الرجل الطير

الرجل الطير

29 يوليو 2019
+ الخط -
مدهشةٌ تلك الأفلام السينمائية ذات البعد الإنساني العميق التي تشيع فيك الرغبة بتكرار المتعة بإعادة مشاهدتها فور الانتهاء منها، كما لو كانت قطعة موسيقية أطربت حواسّك مجتمعة. وهذا ما قد يحدث مع أي متذوقٍ أصيل لفن السينما، حال الانتهاء من مشاهدة فيلم "الرجل الطير.. أو الفضيلة غير المتوقعة للجهل" (Birdman or The Unexpected Virtue of Ignorance)، وهو كوميديا سوداء تفرح القلب الحزين، لشدة ذكاء كتابها الأربعة، ورهافتهم ورشاقة أرواحهم. أحدهم أليخاندرو غوانزليز إيناريتو، مخرج الفيلم الذي صدر عام 2014، وصنفه نقاد جادون أحد أفضل أفلام العام. وحصد سبع جوائز غولدن غلوب، من أهمها جوائز عن أفضل ممثل وسيناريو وإخراج، كما ترشح لجوائز أوسكار في العام نفسه اثنان من أكثر ممثلي "هوليوود" وممثلاتها موهبة وبراعة، إدوارد نورتن، وإيما ستون، عن فئة أفضل ممثل مساعد.
قام بالدور الرئيسي الممثل الفذ، مايكل كيتون الذي قدّم أداء استثنائيا، في دور ممثل سينمائي، حاز قبل أفول نجمه على شهرة واسعة، إثر أدائه، ضمن سلسلة أفلام تجارية، بدور شخصية بطل خارق، من نمط سوبرمان والرجل الوطواط، يرتدي زيا سخيفا، وقناعا يخفي معظم معالم وجهه، يسخر قدرته بالطيران لمكافحة الأشرار والقضاء عليهم، ما أكسبه جماهرية كبيرة في صفوف الجماهير الساذجة التي تسعى خلف الأكشن، ولا ترى في السينما إلا وسيلةً للترفيه. ولأن طموحه أكبر من ذلك، فإنه يتمرّد على الدور النمطي، ويعتذر عن المضي في العمل في السلسلة الناجحة شعبيا ماديا، والتي حقّقت له مصدر دخلٍ كبير، فينساه الجمهور غير الوفي، المفتون بالبطل الشاب الذي أخذ مكانه، يعيش أزمة منتصف العمر حزينا مشوّشا، حالما بتحقيق ذاته في فضاء مختلف أكثر جديةً وعمقا، فيُقدم على مغامرةٍ يستثمر فيها كل ثروته، من خلال كتابة وإخراج مسرحيةٍ، يلعب فيها دور البطولة في أهم مسارح شارع بردواي، أهم شوارع العروض المسرحية والسينمائية في العالم، بعنوان "ماذا نقصد عندما نتكلم عن الحب". يقدّم فيها منظوره المركب عن العلاقات الإنسانية الشائكة، ويطرح أسئلة الحب والخيانة، حيث يواجه، في الأثناء، بكل أسباب الإحباط من الأهل والأصدقاء والنقاد، حتى أن ابنته الحانقة التي تربطه بها علاقة مرتبكة، تتراوح بين الحب الكبير والكراهية المطلقة، تقول له، في لحظة غضب، أنت مجرّد ممثل فاشل يكره "تويتر"، وليس له حساب على "فيسبوك". لقد نسيك الجميع، أنت لم تعد موجودا!، غير أنه يتشبث بكل ما أوتي من خيبة بالحلم، ويذلل الصعاب كلها في سبيل الوصول إلى هدفه. يتجلى في أثناء ذلك، وداخل أروقة المسرح وكواليسه، صراع رهيب في داخله، حيث ينبعث صوت الرجل الطائر، يحرّضه على التشبث بالماضي، يقول له: يا صديقي الأحمق الحالم، الناس تحب الدماء والانفجارات والإثارة. كفّ عن هذا الهراء الفلسفي المليء بالملل والسخافة، وانزع من رأسك خرافة الفن الحقيقي الذي لا طائل منه! مسكينٌ أنت، أيها النجم الشهير الذي كان الجميع يتسابق للحصول على توقيعه، والتقاط الصور معه كيف انتهى بك المطاف في هذا المكان الفظيع. وعلى مستوى مواز، يقوم صراع مع الممثل البارع الشاب (يلعب دوره العبقري إدوارد نيوتن) الذي يحاول سرقة الأضواء، مسلحا بموهبته الفريدة وحضوره الصادم الفج.
يتجاوز بطلنا كل تلك العوائق، في نهاية الأمر، ويحقق نجاحا غير متوقع، وينتزع اعتراف أعتى النقاد بموهبته الكبيرة ونجوميته المستحقة. تفاصيل مذهلة كثيرة يحتويها هذا الفيلم النخبوي الذي يلامس هواجس المبدع الحقيقي ومخاوفه وأحلامه وأحزانه، في مواجهة المتغيرات والتحولات الكبرى في الحياة. إضافة إلى مشاهد فانتازية مصحوبة بموسيقى أخاذة، تعتمد على قرع طبول خافتة، حين يحلق البطل متحرّرا من الرجل الطائر عاليا في سماء نيويورك، يحدّق في الشوارع المكتظة بالناس الراكضين وسيارات التاكسي. وحين يسأله الصوت الخفي: ماذا تريد من ذلك كله.. يرد بحزم: فقط أريد أن أقول إنني ما زلت محبوبا. أريد أن أشعر بأنني أحظى بالحب على هذه الأرض.

دلالات

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.