تقدّم قطري في واشنطن

تقدّم قطري في واشنطن

20 يوليو 2019
+ الخط -
شهدت زيارة أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، واشنطن، في أوائل شهر يوليو/ تموز الحالي، ظواهر إيجابية يجب التوقف عندها، لما تمثله من تقدم ملحوظ للدبلوماسية القطرية على الساحة الأميركية بشكل عام، ومنذ الحصار الرباعي المفروض على قطر منذ يونيو/حزيران 2017 بشكل خاص. تميزت الزيارة بأجواء إيجابية، واحتفاء واضح من الجانب الأميركي، ظهرت في اللقاءين اللذين جمعا أمير قطر والرئيس الأميركي دونالد ترامب، في عشاء أقيم على شرف الأمير في وزارة الخزانة الأميركية، وفي اجتماع في البيت الأبيض في اليوم الذي يليه. كما ظهرت في ثناء ترامب الكبير على أمير قطر "كحليف عظيم" لأميركا و"صديق عظيم" له، وفي اللقاءات الواسعة التي عقدها أمير قطر مع المسؤولين الأميركيين، والتغطية الإعلامية الأميركية الإيجابية للزيارة.
ولفهم تبعات هذا الترحيب، يجب وضعه في سياقه الصحيح، فمنذ عامين تقريبا دعم ترامب وصهره جاريد كوشنر الحصار الرباعي على قطر، واتهم ترامب قطر علنا بتمويل الإرهاب. ولولا تدخل وزراء ترامب، وفي مقدمتهم وزير الخارجية الأميركي المقال، ريكس تيلرسون، للدفاع عن قطر ومواجهة جموح دول الحصار، لربما تطور الحصار إلى ما هو أسوأ في ظل تواطؤ ترامب وصهره. ثم تحركت قطر في واشنطن لمواجهة نفوذ رباعي الحصار، وخصوصا النفوذ السعودي الإماراتي الكبير على إدارة ترامب. وكثفت قطر تواصلها مع المؤسسات الأميركية المختلفة، وأطلقت آلية للحوار الاستراتيجي السنوي بين البلدين، والذي انعقد مرتين. كما وقعت مذكرة تفاهم بخصوص تمويل الإرهاب بالتعاون مع الحكومة الأميركية. وتوجهت إلى شراء مزيد من الأسلحة الأميركية للجيش القطري الذي غلب على تسليحه في الماضي السلاح الفرنسي. كما عملت على توسعة قاعدة العديد الأميركية في قطر لتوثيق العلاقة الأمنية بين البلدين.
وبالإضافة إلى ما سبق، كشفت زيارة الشيخ تميم واشنطن أخيرا عن تفعيل قطر مزيدا من 
الأدوات البراغماتية (الناعمة والصلبة) لتوثيق علاقتها مع إدارة ترامب. فوفقا لموقع دايلي بيست، أنفقت قطر 24 مليون دولار على الأقل، خلال العامين التاليين للحصار، على أنشطة اللوبي والعلاقات العامة في واشنطن من أجل تحسين صورتها وتوثيق علاقاتها بدوائر صنع القرار الأميركية المختلفة، بما في ذلك مستشارو ترامب الأكثر صقورية، كمستشاره للأمن القومي جون بولتون، والذي التقته شركة علاقات عامة استأجرتها دولة قطر قبل إحدى زياراته للمنطقة. هذا بالإضافة لحملة إعلانات "ضخمة" عن التعاون القطري الأميركي.
وأعلنت قطر نيتها شراء رادار أميركي عسكري عملاق مضاد للصواريخ (طوله 120 قدما) ضمن صفقة باتريوت ونظم دفاع جوي أخرى (2.2 مليار دولار)، في توثيق إضافي للعلاقات العسكرية بين البلدين. وفعلت قطر أيضا "شراكتها" الاقتصادية مع الولايات المتحدة، والتي تبلغ أكثر من 185مليار دولار، وفقا لتصريحات أمير قطر خلال الزيارة إذ أعلن عزم بلاده زيادة تلك الشراكة وتنميتها. كما وقعت قطر صفقات لشراء طائرات بوينغ (1.2 مليار دولار)، وفي مجال البتروكيماويات (8 مليارات دولار).
يشار هنا إلى أن الدبلوماسية الاقتصادية باتت أداة أساسية للتأثير على إدارة ترامب (التاجر) الذي بات ينظر أميركيا ودوليا إلى سياسته الخارجية كسياسات تباع وتشترى بالمال، كما هو ظاهر بوضوح في سياسات ترامب تجاه السعودية والأخطاء الفادحة التي يرتكبها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان. وتجيد قطر استخدام موادها المالية، وصندوقها السيادي الاستثماري، أداة من أدوات سياساتها الخارجية، فرئيس صندوق قطر السيادي هو وزير خارجية قطر الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني. ولمّا تعرضت تركيا، حليفة قطر الإقليمية، في أغسطس/آب الماضي لأزمة اقتصادية هوت بسعر عملتها تحت ضغوط أميركية، سارعت قطر إلى مساعدتها باستثمارات قدرها 15 مليار دولار.
وهذا يعني أن قطر عمدت، خلال العامين الماضيين، إلى تفعيل لغة المصالح المشتركة والبراغماتية السياسية في علاقتها بالولايات المتحدة. وجاءت زيارة الأمير أخيرا ضمن هذا الإطار وتتويجا له، فبعد موقف ترامب الصادم تجاه قطر، في بداية الأزمة الخليجية، لجأت قطر أولا إلى تفعيل علاقاتها بمؤسسات الإدارة الأميركية المختلفة، كما حدث في آلية الحوار الاستراتيجي، لتصل، في النهاية، إلى تفعيل علاقتها بترامب ومستشاريه من خلال أدوات الدبلوماسية الاقتصادية والعلاقات الأمنية، ومن خلفها أدوات العلاقات العامة.
ولعل هذا يعد إنجازا للدبلوماسية القطرية لأكثر من سبب: أولها أن نجاح قطر السابق تزامن مع تراجع واضح في صورة بعض دول الرباعية، وفي مقدمتها السعودية، في واشنطن. وتتعرّض السعودية، بشكل متزايد وقد يكون غير مسبوق، لسُخط الكونغرس الأميركي ووسائل 
الإعلام الأميركية منذ جريمة قتل الصحافي جمال خاشقجي. وهو ما ظهر في تزايد المطالب بتقييد صادرات الأسلحة الأميركية إلى الإمارات والسعودية بسبب حرب اليمن، ومعاقبة المسؤولين السعوديين المشاركين في جريمة اغتيال خاشقجي. وهذا يعني أن النجاح على الساحة الأميركية ليس مضمونا، ويتطلب كثيرا من العمل الجاد والسياسات الرصينة، وتفعيل أدوات الدبلوماسية الناعمة والصلبة معا. ثانيا، تحملت قطر ببراغماتية تبعات الأزمة الخليجية على الساحة الأميركية، فعمدت إلى ضخ استثمارات عسكرية واقتصادية ضخمة في الولايات المتحدة، كضمانة أميركية ودولية ضد حالة الفوضى والصراع التي تعيشها المنطقة. كما عمدت قطر أيضا إلى تنويع علاقاتها الخارجية من خلال توثيق علاقتها بفاعلين رئيسيين كروسيا، والتي زارها أمير قطر أكثر من مرة، وكذلك فرنسا وألمانيا واليابان.
والأمر الثالث أن توثيق العلاقات القطرية ــ الأميركية لم يأت على حساب سياسات قطر الرئيسية وتوجهها، فلما حاول ترامب ضرب الاقتصاد والعملة التركيين في صيف العام الماضي، سارعت قطر إلى تقديم العون الاقتصادي لتركيا. كما تستمر قطر في دعم الفلسطينيين ماليا وسياسيا، على الرغم من الضغوط الأميركية والإسرائيلية. وتستمر أيضا في انفتاحها على قوى المعارضة العربية، وفي توفير سقف عالٍ نسبيا لوسائل الإعلام العربية الصادرة منها، على الرغم من كل الضغوط التي تمارس عليها في هذا الخصوص.
كما فعّلت قطر علاقاتها الدبلوماسية مع إيران بعد شهرين من نشوب الأزمة الخليجية، وزاد
 التبادل التجاري بينهما بشكل كبير، بعد أن باتت إيران معبرا رئيسيا للسلع التجارية القادمة إلى قطر، وممرا للطيران القطري الممنوع من أجواء دول الحصار. وخلال زيارة أمير قطر أخيرا واشنطن، تحدث مسؤول أميركي لصحيفة واشنطن بوست عن إمكانية أن تمثل قطر قناة اتصال بين إيران والولايات المتحدة في الفترة الحالية. وهذا يعني أن قطر نجحت أميركياً في امتصاص الضربة التي وجهتها لها دول الرباعية على الساحة الأميركية في أوائل أسابيع الحصار، من خلال تنسيقها مع ترامب وصهره. وقد عملت قطر مع المؤسسات الأميركية أولا، مستفيدة من علاقاتها الاستراتيجية مع تلك المؤسسات. وخلال العامين الماضيين، فعّلت قطر استراتيجية واقعية براغماتية، اعتمدت على لغة المصالح الأمنية والاقتصادية وحملات العلاقات العامة، لتنجح في الوصول إلى ترامب ومستشاريه، وذلك من دون التنازل عن سياساتها الإقليمية المغايرة.
نجحت قطر أيضا في ترويج تلك السياسات كسياسات إصلاحية، توفر ضمانات أساسية لتحقيق السلام، كما حدث عمليا في المفاوضات التي ترعاها الدوحة بين الولايات المتحدة وحركة طالبان، والتي من شأنها أن تنهي حرب أميركا الطويلة والمكلفة في أفغانستان، وأن تنهي كذلك الحرب الأهلية هناك، فلولا تبني قطر سياسات خارجية مغايرة وقادرة على التواصل مع مكونات مختلفة من المجتمع الأفغاني، لما تمكّنت من رعاية هذه المفاوضات. ولعل زيارة أمير قطر واشنطن أخيرا والاحتفاء بها بهذا الشكل دليل على نجاح قطر بإقناع واشنطن، على مستويات مختلفة، بحاجتها لسياسات قطر المناقضة لسياسات دول الحصار.