ضمير المصريين الحي ووفاة مرسي

ضمير المصريين الحي ووفاة مرسي

28 يونيو 2019
+ الخط -
مهما بلغت السلطوية درجتها في العنف، واتسعت هيمنتها على وسائل الإعلام وقدرتها على تشكيل الرأي العام، وتطويع النخب، إلا أنها لا تستطيع الانفراد بالمجال العام، أو إسكات الجميع المستبعدين من ممارسة السياسة، فهولاء يستطيعون التعبير عن مواقفهم في أطر غير سياسية غير رسمية، خصوصا حين تجري وقائع كبرى مؤثرة، تجد قطاعاتٍ من المجتمع شركاء في النقاش، يستعيدون مساحات التعبير. تلك الوقائع لا يمكن السلطة التصدّي لها بآليات تزييف الوعي المعتادة، نظرا إلى شدة وضوحها، وقدرة أغلب قطاعات المجتمع على تحليلها، واتخاذ موقف منها، وضعف النظام فى لحظتها، وبالتالي تفشل هنا عملية إخضاع المجتمع لموقف السلطة، على الرغم من كثافة الدعاية واستخدام سياسات التخويف.
وفاة الرئيس المصري المعزول، محمد مرسي، إحدى تلك الوقائع، والتي سبقتها محطات مماثلة، كالتنازل عن جزيرتي تيران وصنافير للسعودية فيما عرف باتفاقية ترسيم الحدود، والتي أعادت في مصر الحس الوطني الرافض للتبعية والتفريط في الأرض، أو القرارات الاقتصادية القاسية والمتتالية. وقد وجدت وفاة مرسى تفاعلا وتعاطفا كبيرا، أعاد تقييم الموقف من السجناء السياسيين، وخصوصا سجناء الرأي، وما يتعرّضون له من ظروف قاسية، وكذلك دار النقاش بشأن جدية الاتهامات الموجهة لهم وأسبابها، وظروف بقاء كثيرين منهم قيد الحبس الاحتياطي، ووجود كثيرين غير متهمين في جرائم جنائية أو جرائم عنف، وقد سبق واعترف النظام رسميا بوجود سجناء ظلموا، بل تم إطلاق وعود متكرّرة بمراجعة ملفاتهم، تمهيدا لإطلاق سراحهم.
ارتبط التعاطف مع وفاة مرسى بعدة أسباب، أبرزها طريقة الرحيل الدرامية في أثناء محاكمته، وما سبقها من تفاقم وضعه الصحي نتاج الإهمال الطبي، بل ومنعه، بصفته متهما، من التواصل مع المحامين أعضاء هيئة الدفاع، وحرمانه باعتباره سجينا، من الزيارات منذ يوليو/ تموز 
2013 وحتى منتصف 2017، وخضوعه للحبس الانفرادي. ذلك كله جعل حادث الموت يحظى باهتمام واسع، وبتعاطف شمل المختلفين معه، ليقفوا بجانب قواعد الحق والإنصاف، رافضين لغة الشماتة والتشفّي. ويكشف المصريون هنا عن قدرتهم في اتخاذ موقفٍ مناوئ لروايات السلطة واتهاماتها، وهم أيضا الشعب الذي وضع للموت طقوسا منذ القدم، ما زال يتوارثها. ويعرف المصريون أيضا معنى المعاناة التي يتشاركونها اليوم. وربما قارن كثيرون منهم بين حالتي محمد مرسي وحسني مبارك، رئيسين سابقين تعرّضا للسجن، يعرفون الفرق في المعاملة والتهم وظروف المحاكمة وموقف السلطة منهما. تتسع أبواب المقارنة هنا بآخرين من نظام مبارك خرجوا من السجون، على الرغم من جرائمهم، وحصل بعضهم على عفوٍ صحّي لعلاقته بالسلطة.
لا يمكن أن تعتبر الانتهاكات لسجين سياسي، مثل محمد مرسي، أمرا طبيعيا، أو خطأ وإهمالا غير مقصود، فيدل تتابع الأحداث على أن ما جرى شكل من التعنت وفعل مقصود، جرى بمباركة السلطة، وهدف إلى كسر الإرادة وإذلال النفوس، وبسط هيمنة الخوف، والمطلوب اليوم أن يكون السجن والسجناء عبرة للجميع، وأن من يخالف النظام سيكون مصيره التنكيل. وأصبحت هذه الرسالة مفهومة ضمنيا للقوى السياسية، وللشارع المصري عموما، بحكم تكرارها. وليس أدلّ على ذلك ما تعرّض له سجناء عديدون، حسب شهادات ذويهم، للتضييق والمنع من الزيارة، بعد وفاة مرسي، ليؤكد النظام أن لا شيء تغير.
على جانب آخر، عبرت حالة الغضب في مصر، بعد وفاة مرسي، عن رفض ممارسات النظام تجاه السجناء، وتقييد حرية الرأي والتعبير، وكذلك الظلم الذي تعرّض له عشرات الآلاف من المعارضين في السجون. هذه الحالة منقطعة الصلة بالإخوان المسلمين، ولا ترتبط بجهود دعائية لهم، أو تأييد خطابهم وخطهم السياسي، بل صدر كثير من تلك المواقف من أشخاص وجهات مختلفة مع سياساتهم، سيما وأنه بات واضحا أن مرسي تعرض لإهمال طبي مقصود، وانتهكت حقوقه سجينا ومتهما. ولذا وجد أغلب المصريين أنفسهم محل اختبار حقيقي، لتحديد موقفٍ من ذلك كله، حتى لو بالكلمة، وكان من ضمنهم الذين يختلفون واختلفوا جذريا مع سياسات مرسى والإخوان المسلمين، لكن هذا الاختلاف لم يمنع موقفهم المبدئى الإنسانى والسياسي المعارض للظلم، والمطالب بالإفراج عن سجناء الرأي، وكفالة ظروف إنسانية فى حال سجن أي مصري.
كان التعاطف طبيعيا، وأشكال التعبير عنه وعباراته مشتركة، وليس صحيحا هنا أن "الإخوان" 
لعبوا دورا في إشاعة هذه الحالة، بل فوجئ كثيرون منهم بها، خصوصا الذين يرددون خطابات عنصرية وطائفية واستعلائية، وتبقي الصراع السياسي أسير منطق أن معارضيهم عبيد للعسكر، وأنهم غير متدينين أو أقباط، وأن الغرب الكافر تآمر على "الجماعة ليسقطها، لأنه لا يريد حكم الشريعة". ولا يقيم هذا الخطاب حالة تضامن، ويفرّق لا يجمع، لأنه ينطلق من أرضيةٍ طائفية، لا أرضية الوطنية أو الإنسانية، ويتنافى أيضا، بحكم منطقه الاستعلائي، مع فهم التنوع والاختلاف، أو مراجعة ما جرى.
على جانب آخر، لم تفلح الأذرع الإعلامية للسلطة، ولا الخطابات الرسمية، في تغيير موقف أغلب المصريين من وفاة مرسي، بل ساهم بعضها في إيضاح بعض الحقائق المتعلقة بوضعه الصحي، حيث سمح له، حسب تلك البيانات، بتلقي رعاية صحية على نفقته الخاصة، بداية من فبراير/ شباط2017، بعدما قدم طلبا للمحكمة بذلك. ومنذ هذا التاريخ، لم يتم إقرار الكشف الطبي عليه سوى ست مرات، وهو أيضا عدد الزيارات التي سمح له بها منذ التحفظ عليه وسجنه.
ويوضح الأمران أن مرسى السجين انتهكت حقوقه، سواء في الرعاية الطبية أو الزيارة، وهو بذلك يعدّ من الحالات الأكثر وضوحا، فيما يتعلق بالانتهاكات التي تعرّض لها السجناء، فإذا كان مرسي، الرئيس المعزول ومحل الاهتمام الإعلامي والحقوقي، عانى بهذا الشكل، فما حال غيره من السجناء الآخرين الذين عانوا الظروف نفسها وأكثر، فتكرر مسلسل الوفاة بالسجون، وتصاعدت وتيرته منذ صيف 2016 ليتجاوز الآن 800 حالة، حسب رصد منظمات حقوقية.
لقد شكل المصريون موقفهم انطلاقا من صحوة الضمائر، وسلامة الوجدان الذي قارن بين ظروف سجني حسني مبارك ومحمد مرسي، والاتهامات الموجهة إلى مبارك وحاشيته، وخروج معظمهم من السجون، والموقف الحالي
لمرسي والسجناء عموما. وتذكّر كثيرون أيضا من الشعب المصري ورموزه مآلات الثورة المصرية التي انهزمت، حين تفتّتت قواها، وأصبح الجميع يعانى ظروفا قاهرة، سواء من في السجون أو من خارجها.
إجمالا، يمكن القول إن ملف السجناء وما فيه من مظالم، أصبح محل اهتمام اليوم أكثر من ذي قبل، وإن قطاعات من المصريين يتعاطفون مع السجناء المتهمين في قضايا رأي، ويرفضون التنكيل بهم، وإنهم ما زالوا قادرين على التعبير والدفاع عن موقفهم، ولم تستطع السلطة الانفراد بتشكيل الرأي العام، وأيضا لا يعدم المصريون طرق التعبير عن مواقفهم، وقد تجلى ذلك في تكرار هتافاتهم للاعب محمد أبو تريكة، في أثناء افتتاح كأس الأمم الأفريقية، تعبيرا عن تضامنهم معه ضد الهجمة التي يتعرّض لها، من حين إلى آخر، والتي كان جديدها ما كتبه عزاءً في رحيل مرسي.
D75BB17B-0520-4715-86EC-B6995DA95615
عصام شعبان

باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة القاهرة، أحد مؤسسي الجمعية الوطنية للتغيير، عضو المجلس الأعلى للثقافة لدورتين متتالتين، عضو شعبة العلوم الاجتماعية. أحد كتاب الرأى في صحيفة وموقع "العربي الجديد".يقول: "نفعل كما يفعل السجناء، نربي الأمل".