لو أنّ مصر حرّة

لو أنّ مصر حرّة

08 فبراير 2024
+ الخط -

يوجّه الفلسطينيون رسائل عدّة، إلى مصر، مطالبين بدور فاعل، يتجاوز جهود وساطة تقليدية، إلى دور يناصر شعباً محتلاً يتعرّض لحرب إبادة. على الأقل، أن تساهم الدولة الجارة في تخفيف تبعات الحرب، التي حولت أغلب أهالي قطاع غزّة إلى نازحين، بجانب عشرات الألوف من المصابين. تركّز الرسائل على أن تتّخذ مصر دوراً أكبر في جهود الإغاثة، المأوى والطعام والعلاج، من دون التقيّد بإذن الاحتلال في دخول المساعدات، ولا تبدو المهمّة المشار إليها أمراً بسيطاً، في ظل صلافة الاحتلال وابتزازه النظام المصري، ومطالبته بتشديد الرقابة على الحدود، ما يعنى حصاراً محكماً، لا يسمح بمرور ما ييسّر سبل البقاء على قيد الحياة، وبينها قائمة ممنوعات، لا تمرّ من معبر رفح خصوصاً، بدعوى استخدامها المزدوج، وتشمل موادّ غذائية، وأدوية ومستلزمات طبية.

ويتساءل الفلسطينيون، عبر رسائلهم: هل يعجز بلد النيل عن إيصال الماء لمن نزحوا ويعيشون على بعد أمتار من حدودها، تتكرّر النداءات، وتبدو، في أغلبها عفوية، لكنها تختصّ مصر، ويأتي ذكر مواقف الدول العربية والإسلامية من دون تحديد، تنادي أصواتٌ من مناطق قطاع غزّة والضفة الغربية أيضاً، بأن تعرقل مصر مخطّطات الاحتلال، وتعارض سياسة التجويع، وتسهيل عبور المرضى والجرحى للعلاجي، وهي، وإن كانت ضرورية قبل الحرب، فهي تتعاظم حالياً. لذا، يستغرب، أن يسمح لسماسرة بالمتاجرة بالأزمة، ويتقاضى هؤلاء عن كل فلسطيني آلاف الدولارات مقابل العبور في ما يعرف بالتنسيقيات، بينما يأمل طيفٌ من الفلسطينيين (والعرب أيضاً) أن يكون لمصر دورٌ مغاير، لما لها من إمكانات تساهم في صدّ العدوان، وينتظرون موقفاً يمثل انحيازاً وليس مواءمة، تضامناً واصطفافاً مع الحقّ، وليس وساطة بين طرفين، تفهماً للاحتياجات لا تجاهلاً، أو الرد ليس لدينا ما هو أكثر، أو السير في طريق، المقارنة بدول عربية أخرى، بأنها لم تبذل جهداً كما مصر، في مقارنة ليست في محلها.

تتعلق نداءات كثيرة بالأمل في الدولة الأكبر، بجانب حقوق الجيرة، بمفهوم اجتماعي وبما تشكله علاقة الشعبين المصري والفلسطيني من اتصال تاريخي، وأيضاً تصوّرات بينها أن مصر قادرة على الفعل بما تمتلك من مصادر للقوة السياسية والدفاعية، ولكونها دولة مواجهة، خاضت الحرب مع المحتل، بجانب تصوّر عربي غالب، بأن إسرائيل تشكّل خطرا لا يقتصر على الفلسطينيين.

يتساءل الفلسطينيون، عبر رسائلهم: هل يعجز بلد النيل عن إيصال الماء لمن نزحوا ويعيشون على بعد أمتار من حدودها

أمام مشهد الحرب، يتذكّر طيفٌ من المصريين الثورة ومصائرها هنا، ماذا لو كانت مصر حرّة وديمقراطية، ماذا ستكون السيناريوهات المحتملة في رد فعلها الرسمي والشعبي، حتى مع اعتبارات عملية، ومحدّدات الدور، واتفاقية سلام، ستكون الصورة مختلفة. على الأقل، ستبذُل مصر الرسمية خطوات أكبر في ما هو إنساني وضروري وعاجل، على مستوى الإغاثة، تجتهد لوصول المساعدات، بما في ذلك بناء الجبهات وممارسة الضغوط على الاحتلال، وتنظيم قوافل دولية بمشاركة هيئات الأمم المتحدة وممثلي الدول الصديقة للشعب الفلسطيني، عربية أو غير عربية، تقف على المعبر وتضغط لتمرّر المساعدات لتكون متحرّرة من إذن الاحتلال وشروطه، لا أن تسلّم بأن إيصال المساعدات غير ممكن، ما باليد حيلة!

كان ممكناً أن تستند في ذلك إلى القانون الدولي، ومعاهدات ومواثيق، عن دور دول الجوار في مساعدة المتضرّرين من الحروب والصراعات، وإمدادهم بالغذاء والمأوى والعلاج، وكان المصريون داخل المنظمّات الأممية في وضع مواجهة مع إسرائيل، في مجلس حقوق الإنسان ومحكمة العدل الدولية وهيئة الأمم المتحدة للمرأة وغيرها من مؤسّسات، كانت ستمثل ساحة مواجهة.

وضمن الأداء الدبلوماسي، كان سينطلق اللسان المصري، بخطابٍ عربيٍّ فصيح، يعكس ثوابت مصرية وطنية واعتبارات التاريخ والأمن معاً، خطاباً إنساني الانحياز (كما نلاحظه لدى بعض غير المنتمين إلى المنطقة العربية) يسمّي الأشياء بمسمّياتها، الحرب على غزّة وأهلها عدوان، والمقاومة حقٌّ مشروع ضد المحتلّ وليست إرهاباً، ولكنها دفاع المقهورين عن أنفسهم، ضد من يمارسون حرب إبادةٍ على شعبٍ مسالم ومحاصر، وأن تقول القاهرة إن العدو يقف على الحدود يطلق نيرانه، ويهدّد أمن المنطقة، وإن القاهرة لن تقبل الابتزاز أو التهديد، من إسرائيل وحلفائها.

ستفرز حيوية الدولة ذات المؤسسات الديمقراطية، أن يكون في الواجهة أفضل دبلوماسييها في المشهد، متجاوزين لغة باردة، تبدو محايدة، تتحدّث عن ضبط النفس في ممارسة حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها! سيتحدّث القادة بمنطق القوة التي يمتلكونها، لا بمنطق الجمعيات الخيرية وخطابها.

الحرب على غزّة وأهلها عدوان، والمقاومة حقٌّ مشروع ضد المحتلّ وليست إرهاباً

وفي تقديرات متواضعة، ستُذكر مصر بأنها سعت للسلام، لكن العدو يصرّ على الحرب، بما يؤثّر في أمنها القومي ومصالحها، وأنها كانت وسيطاً في عملية طويلة من مفاوضات، لكن إسرائيل تنتهك مجمل ما اتُّفق عليه، وتستمرّ في الحصار، ستذكّر العالم بأن للفلسطينيين الحقّ في الحركة والحياة، وفي منفذ على بحر غزّة، ومطار في القطاع، ودولة كاملة السيادة، وبموجب انتهاك إسرائيل اتفاقات وتفاهمات وأطر عمل سابقة، فإن مصر تغيّر توجهاتها وموقفها.

ستشرح مصر أن الأزمة الإنسانية القائمة، أساسها العدوان الذي يجب أن ينتهي، وأن الحرب ليست أداة تضغط بها تل أبيب على القاهرة، بل العكس، وستقود القاهرة الجامعة العربية، وتمارس تكتيكات دبلوماسية على مستوى إقليمي مع الأطراف الفاعلة لتعدّل موازين القوة، ويدرك الإسرائيليون أن القاهرة لا تستخدم ولا يضغط عليها، وأن دورها في التفاوض ينطلق من انحيازها للشعب الفلسطيني. فخلال صفقة شاليط أكتوبر/ تشرين الأول 2011 وعدوان إسرائيل 2012 على غزّة، تعاملت إسرائيل مع مصر بحسابات مختلفة، لأن الظرف السياسي المستجدّ، واحتمالات تأثيره في توجّهات مصر كان قائماً، وفي كليهما حازت مصر قدرة على التفاوض تؤكّد مكانتها وتصبّ في صالح القضية الفلسطينية.

على مستوى مؤسّسي وبين أمثلة عدة، كان مجلس الشعب، مع احتمالات تنوع تياراته السياسية واختلافها، سيتخذ موقفاً واضحاً ومعبّراً عن غالبية المصريين، يراجع اتفاقيات التطبيع، ويطرح تعديلها، ويهدّد بإلغائها طالما انتهكت إسرائيل ما افترض من سلام، ينفيه العدوان المتكرّر، والمتصاعد حالياً في الأراضي المحتلة والمنطقة ككل.

تصوّر أن هناك مجالاً عاماً من دون قيود، يسمح بإمكانات عمل المصريين ونشاطهم وعطائهم لمجتمعاتهم المحلية، وأيضاً إظهار توجهاتهم تجاه القضية الفلسطينية

سينطق "النواب" ويعبّرون عن ممثليهم من الناخبين ويترجمون مواقفهم، لم نكن نرى جلسة بائسة، معدّاً لها مسبقاً، ومتفقاً على تفاصيلها وأدوار اللاعبين فيها، تكاد أن تكون منعدمة الاثر، لأن المصريين يدركون أنها "تمثيلية" لا تنطلي عليهم (ما بالك بالآخرين) ضمن آليات التوظيف السياسى، كما مظاهرات سابقة دعا إليها أطراف النظام بشكل مركزي، وخلفت من السجناء مجموعة جديدة، تسمّى سجناء التضامن مع غزّة.

لو كانت مصر حرّة، لما كانت تلوّح أطراف إقليمية ودولية، بالمساعدات المالية، وتنشر في ذلك، وسائل إعلام حول مواقف سياسية بعينها وحدود الدور المصري، مقابل المساعدات والقروض، ويكثر الحديث عن انتشال النظام من أزمته التي تصاعدت بحكم تراكم الديون في عشر سنوات، وتقول مؤسسات دولية إنها تستمرّ في الإقراض، وهذه المرّة لتخفف صدمات الاقتصاد من حرب غزّة.

تصوّر أن هناك مجالاً عاماً من دون قيود، يسمح بإمكانات عمل المصريين ونشاطهم وعطائهم لمجتمعاتهم المحلية، وأيضاً إظهار توجّهاتهم تجاه القضية الفلسطينية، كنت سترى مشهداً مغايراً، اللجان الشعبية للتضامن في كل قرية، والكل يساهم لإظهار التضامن السياسي، ودعم جهود الإغاثة، حتى وإن كان ثلثا المصريين فقراء، لكن "الجودة بالموجودة". ولا تنفي بساطة الحال أن يجمعوا أضعاف ما جمعوه من مواد إغاثية، من دون وصاية أو لافتات حكومية تقفز على جهود شعبية، سواء من أفراد أو منظمات أهلية.

 لو كانت مصر متحرّرة لا تحاصرها السلطوية، لرأيت أدواراً مغايرة للأحزاب والنقابات

لو كانت مصر متحرّرة، لا تحاصرها السلطوية، لرأيتَ أدواراً مغايرة للأحزاب والنقابات. على سبيل المثال، كنت سترى اتحاد الأطباء العرب، بقيادة مصرية، وبينه رموز وطنية، في السجن اليوم، يتخذ أدواراً متنوّعة، منها دعم الخدمات الطبية للمصابين، إلى الحشد على مستوى إقليمي ودولي لجهود الإغاثة، ويجعل بالتعاون مع آخرين موضوع الجرحى الفلسطينيين وخدمات الرعاية الصحية، مطروحاً عالمياً، وكانت المستشفيات المصرية التي أعدّت لاستقبال الجرحى، تقدّم خدماتها من دون كذب عن أعداد من استقبلوا فعلياً للعلاج، وكنتَ ستجد نقابات مصر تحشد وتساهم في ما أمكن وما يتصل بمهام أعضائها واختصاصاتهم، وكنتَ سترى، أيضاً، دوراً أكثر حيوية للمجتمع المدني المصري، بما في ذلك من دور إغاثي وأيضاً دور دعائي وسياسي، وتستقبل القاهرة مئات المؤتمرات لمنظمات إقليمية ودولية لتكون القاهرة مركزاً للتضامن والدفاع عن الفلسطينيين، بما تملك من قدراتٍ تظهر دورها ومكانتها، من دون حصار تفرضه سياسات النظام ومعادلات أزمته، وتوجّهاته. وكانت مظاهرات مصر للتضامن مع الشعب الفلسطيني في غزّة والأراضي المحتلة الأكبر عربياً، وربما عالمياً، لأن مكوّنات المجتمع المصري ستكون فاعلة وحرّة، قادرة على الحركة والتعبئة، وتعكس إرادة المصريين، هذا كله وربما أكثر، لو كانت مصر حرّة لا يحكمها الخوف والأزمات، ونتائج حكم الثورة المضادّة منذ عشر سنوات.

ليست هذه السيناريوهات وبأمثلة محدودة، وفي حدّها الأدنى، بعيدة عن التحقّق، ولا متجاوزة للممكن، وتمتلك معطيات تحقّقها، إذا ما توافرت الحرية للشعب وسياسات وطنية وقوى مجتمع فاعل، لم تشلّ حركته، لتبقى للأسف نماذج ضعيفة أو مشوّهة، نتيجة حالة حصار وعقاب للمنحازين لمشروع الثورة، بالسجن أو دفعهم إلى الهجرة خارجياً، أو الغربة في وطنهم بفرض الصمت، فضلاً عن إدارة لمؤسسات الدولة في ظل السلطوية، التي لا تفرز أفضل ما فيها بطبيعة الحال.

مع هذه السيناريوهات المتخيّلة، لدور مصر رسمياً وشعبياً، وتأثيراتها إقليمياً، كانت إسرائيل، قبل اتخاذ خطوات كثيرة، ستضع حسابات مختلفة، لأنها كانت ستدرك أن للشعب كلمته، والمسافة بين ممثليه ومواقفه، صناديق الانتخاب، والمحاسبة، وأصوات الميادين الحرّة تحشد وإمكانات الردّ ممكنة.

D75BB17B-0520-4715-86EC-B6995DA95615
عصام شعبان

باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة القاهرة، أحد مؤسسي الجمعية الوطنية للتغيير، عضو المجلس الأعلى للثقافة لدورتين متتالتين، عضو شعبة العلوم الاجتماعية. أحد كتاب الرأى في صحيفة وموقع "العربي الجديد".يقول: "نفعل كما يفعل السجناء، نربي الأمل".