ترامـب.. تمرين في دبلوماسية الابتزاز

ترامـب.. تمرين في دبلوماسية الابتزاز

11 يونيو 2019
+ الخط -
(1) 
كان لافتاً ذلك الإعجاب غير المحدود الذي أبداه الرئيس الأميركي دونالد ترامب تجاه غريمه رئيس كوريا الشمالية، كيم جونغ أون، بعد فصلٍ طويلٍ من الاستفزازات اللفظية والعملية المتبادلة بينهما، بشأن ملف التسلح النووي الكوري. بلغت الملاسنات بين الرئيسين مداها بتهديد جونغ أون باستعراض مقدراته على استهداف الجانب الغربي من الولايات المتحدة، والذي يقع شرقي كوريا، قدّر المراقبون بعدها أن ما بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية أكثر ممّا صنع الحداد، كما تقول العرب.
وقف العالم يحبس أنفاسه من احتمالات وقوع حربٍ نوويةٍ، لن تسلم من تداعياتها البشرية. بلغ الاستفزاز بين الطرفين أقصى درجاته، ولكن فجأة تغيّرتْ اللهجة وهدأت النفوس، وبدأ الحديث عن إمكانية حوار بين بيونغ يانغ وواشنطن، بشأن برامج التسلح النووي الذي قطعت فيه كوريا الشمالية شوطاً بعيدا. في سنغافورة في يونيو/ حزيران 2018، التقى الرئيس الأميركي "ذو الرّمة" مع غريمه "حليق الفودين" كيم جونغ أون، وتصافحا وتحاورا وجها لوجه والعالم مشدوه يتابع. عاد ترامب يلهج لسانه بامتداح غريمه الكوري، معبّراً عن إعجابه، بل حبه له. وما دوام المحبة إلا بعد عداوة.. أفضى الاستفزاز الأميركي إلى انفراجٍ لم يكن متوقعاً مع كوريا الشمالية.. دبلوماسية الاستفزاز أفرزت تصالحاً مؤقتاً، بل هو أسلوب ماكر لاستخلاص مصلحةٍ تتجاوز الاستفزاز لتكون ابتزازاً محضاً.
(2)
عن الصراع العربي الإسرائيلي، حدّثنا البيت الأبيض عن صفقة القرن، وحدّد لها حيزاً زمنياً 
تطرح فيه. ولكن قبل طرح تفاصيلها بأشهر، فوجئ الفلسطينيون بأن الرجل اعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل سفارته إليها، ثم أغلق مكتب منظمة التحرير في واشنطن. كان ذلك تمريناً في دبلوماسية الاستفزاز، مهّد بها ترامب للصفقة التي يريد تسويقها في الشرق الأوسط، لتكون تسوية نهائية للصراع التاريخي هناك. ربما ينظر المراقبون للمؤسسات الأميركية التي عكفت تعدّ ما تعدّ، خلال العقود الماضية، من طروحات حول ذلك الصراع، ولكن من المشكوك فيه أن يكون الرئيس الأميركي واحداً من الذين استوعبوا أدبيات ذلك الصراع العربي الإسرائيلي: ملفاته واتفاقياته، مطباته ومزالقه. يزمع الرجل، على الرغم من ذلك، أن يقدم تسوية نهائية لذلك الصراع، عبر دبلوماسية الاستفزاز التي مارسها على الطرف المظلوم في معادلة ذلك الصراع التاريخي.
(3)
ذلك هو الرئيس دونالد ترامب الذي يمارس السياسة بذهنية رجل أعمال. لم يسلم جيرانه إلى الشمال وإلى الجنوب من دبلوماسية الاستفزاز تلك. تجرّعت كندا من ضغوط أميركية في التراشق الجمركي بين البلدين، خصوصا في تجارة السيارات والألمنيوم والصلب. لم يقف الأمر على استفزاز تجاري، بل تعدّاه إلى ملاسناتٍ بينه وبين الرئيس الكندي الشاب جاستن ترودو. كان ذلك تمريناً آخر في دبلوماسية الاستفزاز.
مع المكسيك مضت "حدوتة" مشروع الجدار الذي أراد ترامب نصبه في الحدود بين البلدين للحد من سيل المهاجرين إلى بلاده، فارتدت السهام إليه في داخل الولايات المتحدة. لم يوافق الكونغرس على تمويل مشروع ذلك الجدار، واشتدت الخصومة بين الرئيس والكونغرس الذي يسيطر عليه نوّاب من غير حزبه الجمهوري. بدأت لعبة الشدِّ والجذب بين المؤسسات الرسمية من جهة، وتوجّهات ترامب الاستفزازية من جهة أخرى، مع المكسيك وأيضاً مع الكونغرس.
مع الصين الشعبية، مضت دبلوماسية ترامب الاستفزازية إلى مدى بعيد، تأثرت المبادلات التجارية والسياسات الجمركية بين البلدين، وتوترت العلاقات، وأصابها برودٌ مؤقت. لحقت دبلوماسية الاستفزاز بأطراف كبيرة، مثل شركة هواوي الصينية. لن يكون المارد الصيني صيداً سهلاً لدبلوماسية الاستفزاز تلك، ولن يكون أمام الغطرسة الأميركية غير الانزواء، ولو إلى حين..
(4)
ثم نتابع تصعيد الخلافات الأميركية الإيرانية بشأن المفاعل النووي، ويبلغ الاستفزاز مداه، فتفرض الولايات المتحدة عقوباتٍ أحاديةً، وتقاطع ليس إيران فحسب، بل كل من يستورد نفطها. لا تسأل أين الأمم المتحدة، وما دورها، ولا تسأل عن دور "أوبك"، لكننا لا نرى سوى جولاتٍ من دبلوماسية الاستفزاز والابتزاز، في أوج مداها. تتحرّك الأساطيل الأميركية باتجاه مياه الخليج، وترتفع وتيرة التصريحات بين البلدين، تصدر من متشدّدين في آن، وأيضا من عقلاء في آنٍ آخر. ولأن لإيران امتدادات في العراق المجاور، ولها هنالك نفوذ ومليشيات
 موالية، سارعت الولايات المتحدة تحذّر رعاياها، وتسحب أطقم دبلوماسييها من بغداد، تحسباً لمواجهات عسكرية بينها وبين إيران، قد يصل لهيبها إلى العراق. يقف العالم على أعصابٍ مشدودة لإشارات ونذر حربٍ توشك أن تندلع..
لقد بلغت دبلوماسية الاستفزاز مدىً بعيدا. ثم فجأة تعلو بعض أصواتٍ من طهران ومن واشنطن، تلمّح إلى إمكانية فتح قنوات للحوار. إنها دبلوماسية الابتزاز مرة أخرى، إذ نرى الأساطيل تقترب من مياه الخليج الدافئة، ولإيران حضور في "هرمز" وامتدادات في العراق. وما أن أصيبت ناقلات نفط خليجية من الإمارات والسعودية، حتى بدا أن ثمة مواجهات عسكرية ستشتعل في الخليج. .. فجأة تستكمل صفقة أسلحة أميركية متطورة للبلدين العربيين، تصل كلفتها إلى ثمانية مليارات دولار. وستوفر صناعة بعبع إيراني في الشرق الأوسط مبالغ مهولة، نظير حماية أطرافٍ عربية هناك، وستكون الأموال العربية، في مغارة "علي بابا"، كنزاً ثميناً لترامب، وهو يعد عدّته لخوض الانتخابات الرئاسية في عام 2020، آملا أن يفوز بدورة رئاسية ثانية.
(5)
لا.. لن تنشب حرب في الخليج. ومثلما جلس ترامب إلى كيم أون بعد عداء، سيجلس إلى الرئيس الإيراني روحاني، ولكن ليس إلى خامنئي، وذلك لدواعي حفظ وجوه الملالي. لا.. ولن يبقى الدبلوماسيون الأميركيون بعيدين عن سفارتهم في بغداد. لا.. ولن يعلو الصوت الأميركي معارضاً تعاون السعودية والإمارات، لدعم نظام المجلس العسكري في السودان، بل سيخفت إلى درجة الهمس الخجول بأن من المناسب أن تسلم السلطة للمدنيين السودانيين. حتى وإن استدعى الأمر إجهاض ثورة السودانيين، فإن الهمس مطلوبٌ هنا، لدواعي الحرص على أنظمةٍ عربيةٍ موالية، سخاؤها تجاه أميركا أضعاف ما يتلقاه السودان منها.
دبلوماسية الابتزاز الأميركية تؤتي أكلها سريعاً، آخر الأمر.