جدلية المرحلة الانتقالية والرّئاسيات في الجزائر

جدلية المرحلة الانتقالية والرّئاسيات في الجزائر

09 مايو 2019
+ الخط -
تتواصل خطابات النّظام في الجزائر (قيادة أركان الجيش والرئاسة المؤقّتة) من دون أن تطرح الحلّ الذي وعد رئيس الأركان، أحمد قايد صالح، بتجسيده، في إطار ما أسماه "الالتحام بين الشّعب ومؤسّسة الجيش"، خصوصا أن تلك الخطابات لا تتقاطع مع مطالب الحراك، إلاّ في سرعة وتيرة الملف القضائي (شهد استدعاء وإلقاء القبض على رموز ثقيلة من النّظام السابق)، في حين أنّ الملف السياسي يراوح مكانه، بل يسير في اتّجاهين متناقضين بين شعارات الجُمعات المليونية التي بلغ عددها 11 تظاهرة، وما تحمله من سقف لمطالب وُصفت بـ"الشرعية" (وفق تعبير الرئيس المؤقت في خطابه عشية رمضان الكريم) وعروض قيادة الأركان التي تريد البقاء (بل الاكتفاء)، في إطار التّطبيق الحرفي للمادة الدستورية 102، من دون تجاوزها إلى إعمال المادّتين المعياريتين اللتين كان الجيش هو المبادر بالحديث عنهما، وهما 107 (السّلطة للشّعب) و108 (للشعب السلطة التّأسيسية).
لا يمكن التّعرّض للملفّين، القضائي والسّياسي، منذ بدء الحراك في 22 فبراير/شباط الماضي، من دون إبداء ملاحظة اتّخاذهما مسارين متوازيين. ولكن بسرعاتٍ مختلفة، حيث تلاحظ سرعة تفكيك بنية رموز النّظام، بإحالة بعضهم إلى التّحقيق، والآخرين إلى السجن، في حين أنّ البقيّة منهم ينتظرون المصير نفسه، ما يعني أنّ الفساد بلغ عنان السّماء، ومقدار ما تم من نهب للمال العام وتعطيل السير الجيد للسياسة العامة، لا يمكن تخيّل مداه.
يقابل تلك السّرعة قضائياً بطء شديد، يصل إلى حدّ الجمود، بشأن تبعات تفكيك تلك الرّموز، على مستوى الملف السياسي الذي يشكّل محور مطالبات المتظاهرين، منذ قرابة الثلاثة أشهر، حيث إن المعروض، حاليا، من ممثّلي النظام (قيادة الأركان والرئاسة المؤقتة) هو الذّهاب إلى الانتخابات الرّئاسية، إضافة إلى الدّعوة إلى "حوار بنّاء". مع الإشارة، هنا، إلى أنّ تلك الرئاسيات والحوار كلاهما عرضان لا يتوفّران على أدنى شروط القبول، لأنّهما يتمّان بآليات ومضامين تنتمي إلى النّظام السابق. وبدون تفكيكها (الشروط والرّموز) لا يمكن التّصديق، البتة، بأن ثمّة فرصة لإجراء حوار أو لتنظيم رئاسيات في التّاريخ المحدّد، أي 4 يوليو/ تموز المقبل.
ثمّة ترابط منطقي في إرادة التفكيك لعناصر النّظام السّابق، حيث إن مجرّد القول إن تلك 
الرّموز "عصابة" تحكم من خلال "قوى غير دستورية"، باستخدام "التّدليس"، أي أن التّزوير هو إقرار بأنّ من كان يحكم في العقدين الأخيرين، أو على أقلّ تقدير منذ 2014، خلال العهدة الرّابعة التي لم يكن للرّئيس المستقيل، عبد العزيز بوتفليقة، في أثنائها وجود، بسبب مرضه، قد قام بكلّ تلك الأفعال المُجرّمة قانوناً. مع العلم أنّ تلك الرّموز هي من خطّت خريطة الطريق المطبّقة الآن، ومنها تسمية الحكومة الحالية، تفعيل المادّة 102، الدّعوة إلى انتخابات رئاسية، إضافة إلى تصوّر ندوة جامعة (الندوة الفاشلة التي حاول الرئيس المؤقت تنظيمها قبل أسابيع)، وكأنّنا، كما قالت شعارات رفعها الحراك، في عهدة خامسة، ولكن من دون الرّئيس المستقيل.
على مستوى آخر، لا يمكن لتلك الرّموز أن تكون وحدها المسؤولة عن كلّ تلك الأفعال، من دون مساعدة، تسهيلات أو تمكين لوسائل الإجرام من أدوات سياسية واقتصادية (أموال، صفقات، تحفيزات ضريبية، تراخيص تحويلات مالية إلى الخارج.. إلخ) من سياسيين ما زال بعضهم في مناصب المسؤولية، وهو ما يستدعي، في النهاية، الجمع بين الملفين، القضائي والسياسي، أو الدّفع بهما إلى الأمام، بالسّرعة نفسها، قصد تجسيد المطالب المرفوعة من الجزائريين للذّهاب نحو الجمهورية الثانية.
وحتّى لا نكون سوداويين في توصيف الوضع في الجزائر، وتكون كتاباتنا بقصد تسليط الضوء على مضامين الأزمة السّياسية، يمكن القول إنّ ما ورد في خطابات قائد الأركان ورئيس الدّولة المؤقّت (أن مخاطر تتهدّد الحراك والبلاد بامتدادات خارجية، حيث لُوحظ لغط بشأن مسائل لها صلة بالقضية الهوياتية، ظننا أنها حُلّت، وأنّها لن تشوّش على الحراك) هي إشارة إلى أن الكلّ يريد الاستفادة من الانسداد، لإعادة ترتيب أموره، خصوصا على المستوى الإقليمي من المُستعمر القديم، فرنسا، التي تُدرك، تماما، أن تأثيرها سينقص/ يزول، في الجزائر، إذا حدث تغيير سياسي حقيقي وهيكلي.
ولتوضيح الأمر أكثر، يجب تأكيد حقيقتين: أولاهما متعلّقة بالخوف من أن تعمد السّلطات الجديدة في الجزائر، إذا حدث تغيير حقيقي، إلى اتخاذ قراراتٍ بشأن إعادة التّفاوض بشأن اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، والتي تمّ، من خلالها، نهب الاقتصاد الجزائري، ورهنه خصوصا لصالح الشّركات الفرنسية، ليثبت أن الخاسر الأكبر، مستقبلا، من ذلك كلّه، هو فرنسا وامتداداتها الاقتصادية في الجزائر. الحقيقة الثّانية ثقافية خالصة، حيث لاحظت فرنسا أنّ توجّها ثقافيا جديدا بدأ الحراك في ترسيمه، حيث رُفعت شعارات كثيرة، بالعربية (الفصحى والعامية الجزائرية) والإنكليزية، وأنّ فضاء اللّغة الفرنسية يتقلّص إلى درجة كبيرة، خصوصا بين الشباب والطلبة الجامعيين، مما ينذر بأن التوجّه والمشهد الثقافيين يسيران نحو التغير العميق، بكل ما لذلك من تبعاتٍ على زوال النّسق الفرنسي، بخلفيته الثقافية والاقتصادية لصالح رؤيةٍ أخرى تفرضها الأوضاع الجديدة.
على الرّغم من سلمية التظاهرات، بعد قرابة الثلاثة أشهر من بدء الحراك، وثبات مطالبه،
 أسبوعا بعد أسبوع، بإرادة إحداث التّغيير الحقيقي، إلاّ أنّ الملاحظ تعنُّت النّظام في الإبقاء على جزء من وجه النظام السياسي السابق، من خلال الحفاظ على رجاله وممثّليه (في الحكومة، خصوصا)، وحتّى مع التّسليم بأنّ تلك التهديدات، المحدقة بالحراك، بالحجم الذي أشار إليه قائد الأركان ورئيس الدولة المؤقت، من حيث خطرها على استقرار البلاد، إلا أن الغريب هو الاستمرار في عدم الإسراع في الملف السياسي الذي يشكل خلفية كل ما يجري، إن على المستوى القضائي، وإن على مستوى تلك المخاطر والتهديدات الخارجية بامتدادات داخلية، كما سبقت الإشارة.
ما يتم هو مسألة ربح الوقت، ما يعني أن ليس ثمة إرادة بالذهاب بالتغيير إلى مداه الذي يطالب به المتظاهرون، والذي، للمفارقة، أقرّ به كلّ من قائد الأركان ورئيس الدّولة المؤقّت، حيث وصف الأوّل النظام السابق بأنه "عصابة"، أي يجب أن تزول حتى يعود النظام السياسي إلى توازنه، ويعمل بشكل طبيعي. في حين أنّ الثاني وصف تلك المطالب بأنها مشروعة. وإذا أضيفت إلى ذلك الملفّات الثّقيلة، على المستوى القضائي، والتي يقول قائد الأركان إنه اطّلع عليها، وإن أموالا كبيرة تمّ نهبها، فإنّ الجميع (قائد الأركان والرئيس المؤقت من ناحية، والحراك من ناحية أخرى) متّفق على شكل التغيير ومضمونه، إلاّ أن ثمة اختلافا في مدى ذلك التغيير وتوقيته. وثمّة مبادرات يتمّ تقديمها، تباعا، من الحراك والمعارضة، على حدّ سواء، وهي تذهب، في عمومها، إلى ما أشير إليه من وجوب الجلوس حول طاولة الحوار/ التفاوض، لإقرار رزنامة زمنية للتغيير، مع جدول بالخطوات التي تجعل منه تغييرا حقيقيا، بما يكفل تجسيد شعار "يتنحّاو قاع" (ليرحلوا جميعا)، من خلال دوران حقيقي للنخب، وتمثيلية أكبر، وأكثر توازنا لكل فئات الجزائريين، داخل المؤسّسات السياسية بتحديد توازنات جديدة للنظام السياسي بدستور مُعدّل، يكون بمثابة "العقد الاجتماعي الجديد" لجزائر جديدة، آن لها أن تولد، وأن تكبر بمقدار ما لها من مقدّرات وإمكانات.
تدل المؤشرات على أن تاريخ 4 يوليو/ تموز المقرر للانتخابات الرئاسية، في ظل الظروف الحالية، لا يمكن أن يشكّل موعدا سياسيا فعليا، بل إنّه، وفق ما قاله قائد الأركان، لا يمكن أن توصف بـ"الظروف المواتية لتنظيم الانتخابات"، ما يعني وجوب التّفاوض/ الحوار لإقرار آليات تغيير حقيقية. والأمر مستعجل، لأن الرّهان هو على الاستقرار وانبعاث الآلة الاقتصادية، إضافة إلى تحجيم الأخطار المحدقة والقادمة من الجوار والإقليم واحتوائها.. وإن غدا لناظره لقريب.