التنقيب عن الأمل

التنقيب عن الأمل

30 مايو 2019
+ الخط -
(1) 
المعادن الثمينة ليست موجودة بكثرة على سطح الكرة، ربما تحتاج إلى غربلة مائة طن من التراب لتستخلص غرامات من الذهب. الأمر يستحق التعب بالتأكيد، لأن تلك المعادن الثمينة لا يمكن "صناعتها"، والطريقة الوحيدة للحصول عليها هي التنقيب عنها، وكم حلم الكيميائيون والسحرة والمشعوذون بتحوّل معادن رخيصة إلى أخرى ثمينة، إلا أن أحلامهم دفنت تحت حقيقة واحدة: إذا أردت الحصول على الذهب نقّب عنه.
الأمل كالذهب اليوم، وكبقية المعادن الثمينة، هو في حالة ندرة، ولا بد لك من التنقيب عنه، ربما وسط أطنانٍ من النفايات، تقذف بها كل لحظةٍ منصات الإعلاميْن، التقليدي والحديث، ولعل أسوأها ما يتعلق بالقِبلتين اللتين توجه ويتوجه إليهما ملايين البشر، تضرّعا ودعاءً وصلاةً، وكلتا القبلتين تعيشان محنةً من نوعٍ ما. الأولى تحت احتلالٍ صريحٍ لا لبس فيه. والثانية تقع تحت براثن من يصدّون عن ذكر الله، ويحاربون عباده، فكلتاهما وقعتا تحت حكمٍ من لا يرحم، أقولها بملء الفم. ولهذا وجدت ذلك الجسر الهجين الذي بدأ يمتد من الأقصى المحتل وصولا إلى الحرم المكّي، جسر من الحب والعشق المحرّم، وإلا كيف لي، أنا المواطن العربي المسلم الذي تربيت على وجود تناقضٍ لا سبيل لمحوه بين "إسرائيل" و"السعودية" وقد تحوّل إلى تفاهماتٍ ولقاءاتٍ حميمة محمومة، كيف لي أن أفهم وأتفهم حملة سلطات آل سعود المسعورة على كل من يتخذ موقفا مقاوما، أو رافضا لعسف وظلم النظام أو العدو الصهيوني، أو يتعاطف مع فلسطين وأهلها؟ كيف لي أن أتعايش مع أخبارٍ عن اعتقالاتٍ غير مسبوقةٍ في صفوف فلسطينيين وأردنيين ومصريين، وجنسياتٍ أخرى كثيرة، منها مواطنون محليون، كل ذنبهم أنهم يرفضون أن يتحوّلوا أذنابا أو مخلوقات بذنب، وأصرّوا على أن يمارسوا إنسانيتهم بكل كبرياء وشموخ؟ كيف أفهم ألا يستحي مشايخ وقادة وزعماء من التمسّح بالعدو الأبدي للأمة، بل التنسيق معه لمطاردة الأحرار، وملاحقة كل جذوة أملٍ، ولو كانت في أقاصي الأرض، خوفا من امتداد نورها للمتعبين؟
كل ما تقدّم لا يشكل غير نوعٍ واحدٍ من "النفايات" إياها، وإن كان هو الأشد نتانةً، ورائحته تخنق الروح، لا تزكم الأنوف فقط، فما بالك مع وجود تلك الوفرة في إنتاج تلك النفايات، وقذفها في وجوه الخلق صباح مساء، وليست مزبلة "صفقة القرن" وعمال المقاولة فيها، الرئيسيون والهامشيون، المعلنون والمخفيون، إلا نموذج مصغر لوحدات إنتاج تلك النفايات.
(2)
لعل من المفارقات الجارحة في رحلة التنقيب عن الأمل أنك تبحث عن هذا الشيء الثمين في 
الجانب الآخر، بالضبط كما تراهن على "وطنية" الصهاينة لدفن مشاريع تصفية آخر ما بقي من فلسطين. أنت تفرح كثيرا حين ترقب تلك "الوطنية" الشوفينية، وهي تتعاظم على نحو جنوني. بالضبط كما يفعل سائق شاحنةٍ بلا فرامل، يُمعن في السرعة وهو يعرف أنه سيصل عما قليل (أو بعيد!) إلى حافّة جرفٍ مخيف. ومع هذا يزيد سرعته. "إسرائيل" بهذا المعنى تنتحر، وهي في أوج قوتها. "عقلاء" يهود قليلون ينتبهون لهذه العملية الخطيرة، وهم بالكاد يفصحون عنها، وحين يفعلون، يتهمون باليسارية، وهي تهمةٌ أضحت من أبشع التهم، بل ارتبطت بالتشكيك بيهودية كل يساري، وهو بهذا المعنى "مندسّ" على اليهود، ويشكك في أصله. وربما هذا ما دفع الكاتب اليهودي اليساري، جدعون ليفي، إلى إجراء عملية فحص "دي إن إيه" لمعرفة أصله فعلا، وهل هو غير يهودي كما يقولون، ليكتشف أنه يهودي أشكنازي "أصلي" أبا عن جد!
المشروع الصهيوني اليوم في أوج عظمته، ولا يكاد ينازعه قريب ولا بعيد، ومن كان يقوم بدور الجاسوس والخادم الوفي له سرا لم يعد يجد حرجا في إعلان نذالته والتباهي بها. ومع هذه العظمة، والأبهة، والعلو الكبير. تنقب عن أملٍ ما، تستأنس به، فتجده في بضعة سطور، أفلتت من كاتب صهيوني، تختصر عليك الكثير من التنقيب: "ليس في البلاد في العقد الأخير ذخر مطلوب أكثر من جواز السفر الأجنبي. كثيرون جدا هم المواطنون، من أشكناز وشرقيين، يمينيين ويساريين، ممن يحوزون جوازات سفر أجنبية، والسباق مستمر. ولهذه الظاهرة أسبابٌ معلنة، ويجري فيها الحديث: من تقصير الطوابير في المطارات، عبر التعليم المجاني للأطفال وحتى اعتبارات الضرائب. وسبب واحد خفي: اندثار الأمل. فالناس لا يؤمنون بأن إسرائيل ثنائية العرق وثنائية القومية، الأصولية، الشرعية، ذات سلم الأولويات السياسي الفاسد، ستنجح في البقاء عقودا كثيرة أخرى. وحتى أولئك الذين يصوّتون بشكل عادي للحزب الحاكم يخشون من أن يكذب حلم إسرائيل، وأن يهودا لن تبقى أبدا والقدس ليست من جيل إلى جيل". هكذا يصف أمنون أبرموفيتش "اندثار الأمل" في مقال افتتاحي في "يديعوت أحرونوت" (14/5/2019).
ومع اندثار أملهم، هم، نستمر نحن في رحلة البحث عن بارقة "أمل" مع كل اندثار، في الجانب الآخر، وهو ما يفعله عادة السجناء والعاطلون عن العمل، حين يربّون الأمل، كما يقول محمود درويش: هنا، عند مُنْحَدَراتِ التلالِ، أمام الغروبِ وفُوَّهَة الوقت، قُرْبَ بساتينَ مقطوعةِ الظلِّ، نفعلُ ما يفعلُ السجناءُ، وما يفعلُ العاطلونَ عنِ العمَلْ: نُرَبِّي الأمَلْ.