صالح بن يوسف.. دم يأبى أن يجفّ

صالح بن يوسف.. دم يأبى أن يجفّ

22 مايو 2019
+ الخط -
لا أحد يُنكر أن الزعيم التونسي الراحل، صالح بن يوسف، الذي انخرط في الحزب الحر الدستوري الجديد سنة 1934 ليتولّى أمانته العامة سنة 1948، وإعادة هيكلته وبعث منظماته الوطنية في قطاعات الفلاحة والتجارة والصناعة، والعمل المشترك مع الاتحاد العام التونسي للشغل، كان دستورياً (الحزب الدستوري) حتى سنة 1955. ولكن الرجل لم يعد كذلك، بمعنى الانتماء إلى الحزب الدستوري الجديد منذ 12 أكتوبر/ تشرين الأول 1955، اليوم الذي قرّر فيه رئيس الحزب، الحبيب بورقيبة، إقصاءه، وذلك قبل أن يعقد مؤتمر صفاقس أيام 15 - 19 نوفمبر/ تشرين الثاني من العام نفسه، والذي قاطعه بن يوسف وأنصاره، وانتهى إلى قرار تصفية اليوسفية واليوسفيين.
أسس بن يوسف، بدلاً من ذلك، حزباً جديداً اسمه حزب الأمانة العامة. وهذا موثّق في الكتاب الذي أصدرته كتابة الدولة للشؤون الخارجية التونسية سنة 1958، وعنوانه "كتاب أبيض في الخلاف بين الجمهورية التونسية والجمهورية العربية المتحدة". وسرعان ما تحول الحزب الجديد إلى حركةٍ سياسيةٍ مقاومة، لا تعترف إلا بالعمل المسلح أسلوباً لتحقيق الأهداف السياسية، وطرد المستعمر، ضمن رؤيةٍ مغاربيةٍ تقوم على فلسفة لجنة تحرير المغرب العربي في القاهرة التي أقرّت، في ميثاقها، أن استقلال أحد أقطار المغرب العربي لا يلغي مواصلة الكفاح من أجل تحرير بقية الأقطار. ولتصحيح اتفاقيات الاستقلال الداخلي والاستقلال التام، والتي جاءت منقوصة وشكّلت خطوة إلى الوراء، على حدّ قول بن يوسف نفسه، والذي أصبح يمضي القائد الأعلى لجيش التحرير الوطني التونسي، حسب ما ورد في رسائل صالح بن يوسف من ليبيا المنشورة بالكتاب الأبيض سالف الذكر، لتصحيح الاتفاقيات، تشكلت ملامح الحزب الجديد في علاقة بالتحولات الجيو- سياسية التي عرفها الوطن العربي والعالم الثالث بعد الحرب العالمية الثانية، فلم يعد صالح بن يوسف يرى مصير تونس مرتبطاً بفرنسا، كما حال غريمه الحبيب بورقيبة، وإنما يراه مرتبطاً بالقوى التحرّرية الصاعدة، وخصوصاً بكل من مصر بقيادة جمال عبد الناصر وأحمد بن بلة قائد الثورة الجزائرية وجبهة التحرير والمهدي بن بركة القائد المغربي ذي التوجهات المعادية للاستعمار في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية وحليف الثورة الجزائرية.
كتب صالح بن يوسف رسالتين، في 10 نوفمبر/ تشرين الثاني و24 نوفمبر/ تشرين الثاني 
1954، مخاطباً قيادة الحزب الحر الدستوري التي تفاوض الفرنسيين من أجل حكم ذاتي، تبعاً لاتفاق سرّي بين بورقيبة ووزير الشؤون الخارجية الفرنسية في حينه، بيار منداس فرانس، قائلاً: "إذا وافقتم على تسليم السلاح فهذا يعدّ منكم خيانةً وعاراً، وإذا سلمتم في حقوقنا في الأمن والتمثيل الدبلوماسي والخارجية فهذا عار وخيانة أمام العالم، وأمام الشعب التونسي بصفة خاصة". وخطب من أعلى منبر مؤتمر باندونغ سنة 1955 الذي ستنبثق عنه منظمة عدم الانحياز، قائلاً إن "على الشعب التونسي المدعوم اليوم بمساندة ثلثي شعوب العالم المجتمعة في مؤتمر باندونغ أن يرفض حكماً ذاتياً خادعاً ومفرغاً من مقوماته". وأضاف، في خطاب له يوم 16 أكتوبر/ تشرين الأول 1955، "لقد عدتُ لأقاوم وسأرفع معنويات هذا الشعب، ليرمي هذا المصير الذي أقرّته له الاتفاقيات الفرنسية - التونسية". وقد سحب بن يوسف موقفه الرافض اتفاقيات الحكم الذاتي، الموقعة في 1 يونيو/ حزيران 1955 على بروتوكول استقلال تونس الذي وقعه رئيس الحكومة التونسية، الطاهر بن عمّار، والوفد التفاوضي من قادة الحزب الحر الدستوري الجديد، يوم 20 مارس/ آذار 1956 الذي لم يقطع بدوره مع اتفاقية استعمار تونس، المعروفة بمعاهدة الحماية التي وقّعها محمد الصادق باي في قصر باردو سنة 1881.
كان لا بد من عرض هذه التوطئة التاريخية، لدحض الفكرة السطحية الرائجة والتي تفيد بأن اختلاف صالح بن يوسف مع الحبيب بورقيبة كان صراعاً شخصياً على المناصب والسلطة، والحال أنه صراع رؤى سياسية، واختلاف مقاربات مجتمعية، بدأت تتبلور عندما لاحت في الأفق نتائج المقاومة المسلحة التي انطلقت في الجنوب التونسي سنة 1952، لتشمل لاحقاً بقية مناطق البلاد التونسية، فقد ذهب بن يوسف ضحية مقاربته الوطنية والمغاربية والعربية والعالمثالثية، فيتم اغتياله بقرار من رئيس الدولة التونسية، بورقيبة، الذي جنّد أجهزة تلك الدولة في الاغتيال، وخصوصاً مصالح وزارتي الداخلية والخارجية، لا لمجرد اختلاف في الموقف، أو بسبب صراع عبثي على السلطة والحكم. وإنما تم اغتياله في سياق تصفية المعارضة الوطنية ضد الاتفاقيات الموقعة مع المستعمر الفرنسي، والنظام المنبثق عنها بعد تولي الحبيب بورقيبة الحكم سنة 1956 من موقع رئيس الحكومة، ثم رئيس للجمهورية بداية من سنة 1957. ولم تفلح كل محاولات رأب الصدع بين الرجلين، بما في ذلك لقاؤهما العاصف في زوريخ السويسرية في 3 مارس/ آذار 1961، أي بضعة أشهر قبل تنفيذ الاغتيال، ما يؤكد أن الخلاف لم يكن شكلياً أو شخصياً، إذ إن آخر كلام بن يوسف إلى بورقيبة هو اتهامه بخيانة الثورة الجزائرية، فهل كان الموقف من جبهة التحرير الجزائرية وثورة نوفمبر 1954 مسألة شكلية، أو قضية شخصية لبن يوسف أو بورقيبة؟
تتعالى أصوات بورقيبية محدثة، مغرقة في بورقيبيتها السياسية، لم تعش وقائع الصراع 
البورقيبي - اليوسفي وخلفياته التي حكمته، أو لم تتطلع على المدونات التاريخية والوثائق الأرشيفية والشهادات الشفوية المتعلقة به، ولم ترتو بتفاصيل ذلك الصراع الدموي وأحداثه، لتبرّر اغتيال بورقيبة بن يوسف وقتله يوم 12 أغسطس/ آب 1961 في فرانكفورت، معتبرة أن بن يوسف قد هدّد بورقيبة بالقتل والاغتيال، وبالتالي فهو يستحق أن يُقتل. وهذا تفكير، من حيث أدرك أصحابه خطورة موقفهم أم لم يعوا، يشترك في جريمة القتل والاغتيال، وكان عليهم ألا يسقطوا في هذا المستنقع العفن الذي لا تقبل به الشرائع السماوية والتشريعات الإنسانية والقوانين الدولية، والتي لا تجرّم النيات، وإنما تجرّم وتدين وتعاقب على الأفعال. أما عن أسباب تهديد بن يوسف بتصفية بورقيبة، فمردّه حكما الإعدام ضد بن يوسف، الصادران عن محكمة القضاء العليا، وهي محكمة استثنائية، لا تتوفر فيها شروط المحاكمة العادلة، أحدثها بورقيبة في 19 إبريل/ نيسان سنة 1956 للنظر في القضايا ذات الصبغة السياسية، وتحديداً لتصفية اليوسفية، والتخلص من خصومه ومعارضيه. وقد حكمت هذه المحكمة على مقاومين وقادة يوسفيين كثيرين بالإعدام، وتم تنفيذ تلك الأحكام، وتم اغتيال آخرين من أنصار بن يوسف وقادة حزبه، الأمانة العامة، منهم المختار عطية، وكذلك سائق بن يوسف، علي بن إسماعيل، ومصوّره محمد بن عمار، إضافة إلى مئات اليوسفيين الذين تم جلبهم من البوادي والقرى والمدن التونسية، وقتلهم في مقر الشعبة الدستورية في المدينة العتيقة، وتم دفنهم جماعياً في بئر مجاورة للمكان.
شاءت الأقدار وحدها أن يحتضن قصر العدالة التونسية الذي كان يفتتح السنة القضائية سنوياً فيه الرئيس الأسبق بورقيبة ووريثه بن علي، وشهد محاكمة الزعيم الوطني صالح بن يوسف، والحكم عليه هو ورفاقه بالإعدام مرتين في يناير/ كانون الثاني 1957 وفي ديسمبر/ كانون الأول 1958، أن يحتضن محاكمة بورقيبة نفسه، في محاكمة تعقدها الدائرة المختصة في العدالة الانتقالية يوم 16 مايو/ أيار الحالي. إنه التاريخ الذي يصحّح الأخطاء والجرائم التي ارتكبها فاعلوه، ويقوّم مساراته، ويردّ الاعتبار والحقوق إلى أصحابها، ولو رمزياً، مانحاً الدولة التونسية والقائمين عليها، وفي مقدمتهم رئيس الدولة، أن يغتسلوا من الدم، ومن أدران جريمة دولةٍ كانوا شهوداً عليها لحظة وقوعها. فهل يعتذر الرئيس الباجي قائد السبسي عن تلك الجريمة الشنيعة باسم الدولة التونسية، أم ينهي ولايته هذه السنة، ويهمل فعلاً شنيعاً، ما زالت تداعياته قائمة، على الرغم من مرور 58 سنة على وقوعه، أم هو دم الزعيم صالح بن يوسف الذي يأبى أن يجفّ؟