الطيب تيزيني.. قيامة لـ"الطريق الثالث"

الطيب تيزيني.. قيامة لـ"الطريق الثالث"

20 مايو 2019
+ الخط -
ليست مشكلات منطقتنا التي لا يبخل التاريخ بتقديم نماذج عنها، أو الراهن بما كشف عنه ما سمي الربيع العربي، في الأنظمة السياسية، أو الحكومات العميقة الراسخة التي تعتقل المجال العام في قبضتها، وتدير الحياة بسطوتها متعدّدة الأدوات، بل هناك مشكلة أشد خطورةً وأكثر إلحاحًا لتفكيكها، كي يكون هناك إمكانية نهوض من حالة الانحدار التي نحن فيها، إنها المجتمعات العميقة، تلك التي كشفت الأزمة السورية عن مدى تمكّنها ورسوخها في البنيان السوري، وتم الاشتغال عليها وتغذيتها وتعزيزها هوية بديلة عن الهوية السورية الجامعة. 
نادى المفكر السوري، الراحل أخيراً، الطيب تيزيني، بالمشروع العربي في النهضة والتنمية، وصفه بأنه مشروع ثقافي ـ سياسي، بدلاً من المشروع السياسي الثقافي الذي اعتبر أن سمته الأولى مطلبية، تلحّ على اللحظة الآنية بأن تطرح الأقصى في مرحلةٍ لا تحتمل إلاَّ الأدنى، فالنظام يرفض والشعب غائب، ولذلك تبعثرت قوى كثيرة. ولأنه كان يعرف أن في سورية، في العمق منها، مجتمعاتٍ مغلقةً يلفها نظام شمولي، يلقي خيمته متعدّدة الطغيان عليها جميعًا، طغيان سياسي وديني واجتماعي واقتصادي، ليبدو ظاهريًا أن ما يكوّن الشعب السوري المتعدد هو مجتمع متجانس مستقر، فقد كان يركّز على المشروع النهضوي التنويري، نادى بالمشروع الثقافي السياسي كما يسميه، و"انبثقت ضروراته من هذه المرحلة السورية تحديداً، ولكن منذ أن انبثقت تبين أنها ليست مشروعا سوريا، وإنما هو مشروع أمة.. هنالك احتمال وجود انفجارين كبيرين فيها، انفجار طائفي، أو انفجار طبقي ملوث طائفياً، ليس فقط كما حدث في مصر تحت ما سماها أنور السادات انتفاضة الحرامية، وإنما بتزوير الحدث.. وهذا لن يكون انفجاراً يعبر عن الجياع، وإنما سيكون مشكلة طائفية، وهذان احتمالان أراهما بوضوح، إذا كان الحديث
يتعلق بسورية، فليس هذا لأن الشعب السوري طائفي، بل لأن هنالك مسوّغات لمثل هذا الاحتمال". تصريح كهذا، منشور في موقع البوابة في حوار أجراه معه الكاتب السوري، نبيل الملحم، قبل أكثر من عقد على اندلاع الانتفاضة السورية ومآلاتها الكارثية، لا يمكن إشاحة النظر عنه، بل كان حقيقةً ناقوسَ خطر يقرعه في ضميرنا، وعلى مسامعنا، رجل متبصّر دارس، عارف، نزيه، منتمٍ إلى إنسانية الإنسان، وإلى وطنه سورية، سورية التي بكاها، وهو القامة الفكرية الشامخة في إحدى محاضراته الحاشدة في المغرب، بكاها بدموع القلب وحرقته، بكاها بكاء طفلٍ لم تلوثه مكائد الفكر، ولم يعرف الكذب أو النفاق. لم يزعزع انتماءه إلى سورية كعبُ بندقيةٍ، تطاولت على أهرامات عمره النبيل، وسنينه الطوال، بغضونها العميقة على وجهه.
لم يؤجج الاعتداء عليه، في 16 مارس/ آذار 2011 في اعتصام سلمي في دمشق، ثأرية أو ضغينة كالتي أعمت البصائر لدى بعضهم ممن لم يذوقوا ما ذاق من الاعتداء على كرامته، لكنهم، بين عشيةٍ وضحاها، ترجلوا عن فرس السلطة، وغادروا مواكبها المتنمّرة الموغلة في الفساد والجبروت، ثم ركبوا موجة الثورة، وفرّوا هاربين إلى مراتع الدول الوافرة، يشتمون ويسبون ويلعنون بادعاء الثورة وحماية الشعب، الشعب الذي وحده دفع ثمن نفاقهم وتبعيتهم وارتهانهم، معتبرين أن للشعب ذاكرة السمك وغفران الأنبياء.
كانت مشكلته بالنسبة إلى شريحة من "الثوريين" أن "مشروع النهضة والتنوير يبدأ بفكرة مركزية حاسمة"، كما يقول، "التنوير في مواجهة الظلامية، والإقرار غير المشروط بالتعدّدية بكل أنماطها، والقبول بما ينظم الناس جميعاً، وهو السقف الوطني والقومي الديمقراطي.
نادى بالطريق الثالث، الطريق الذي لا هو صِدام ولا استكانة، هو طريق "تحت سقف التصادم وفوق سقف التسليم" يصلح عنوانًا لمشروعه الفكري، ورؤيته لما يمكن أن يصلح الأحوال، ولو ببطء، في سورية، بدلاً من ذهابها الحتمي إلى المصير الذي وصلت إليه.
لم يكتفِ الطيب تيزيني، وهو العالم في الفلسفة، أن يبقى في حيز التأمل وتفسير الظواهر والواقع، بل انطلق من فسحة التأمل والفكر إلى مسعى التغيير، فوضع خلاصة فكره ونتائج بحثه في عمق التاريخ والراهن، وقدّم خريطة طريقٍ تتطلب نفسًا طويلاً، لكنها أكثر أمنًا وأمانًا، كانت غالبًا ستجنب البلاد المصير المهول الذي وصلت إليه بالصدام، فهو يرى أن المشكلة في الخطاب السياسي أن تكون "لغته صدامية، النظام السياسي لا يحتملها، والجمهور لا يستطيع حمايتها"، فأن "تطرح الأقصى في مرحلةٍ لا تحتمل إلاَّ الأدنى.. النظام يرفض، والشعب غائب" يبدّد القوى ويبعثرها ويجرّ البلاد إلى الهاوية. وهنا لبّ المشكلة التي أدت بالانتفاضة السورية إلى أن تتحول حربا، وتتحول معها القضية السورية إلى أزمة فائقة التعقيد والخطورة، أولى نتائجها، وربما أخطرها، انهيار الكيان السوري، دولة ومجتمعًا، والنكوص بوعيه وحياته إلى مراحل ما قبل الدولة، وانهيار المجتمع، لتنكشف البنى المجتمعية العميقة المتجذّرة التي صارت مهمة تفكيكها أولوية ملحة، ومهمة جسيمة، وفائقة التعقيد والصعوبة.

لم يفقد الطيب تيزيني إيمانه بالشعب، ولم يكن الشعب خارج أطروحاته ومشروعاته المستقبلية التي طرحها إنقاذًا لسورية، لم يدقّ أسافين القطيعة بينه وبين فئات الشعب، مثلما راكم غيره من خطاباتٍ دقت هذه الأسافين بقسوةٍ وشراسة، أسافين محمّاة على نيران الضغينة والفتنة والثأرية، فأضرمت النيران أكثر من نيران البراميل والصواريخ والمدافع، وأراقت دماء أكثر من السكاكين والسواطير المباركة، كان يفهم طبيعة النظام والسلطة، مثلما يفهم طبيعة الشعب، ولديه تصورّه السلمي، من أجل إنقاذ سورية، يطرح مشروعًا لكل السوريين من دون تمييز أو إقصاء "أعتقد بوجود مجموعة ليست قليلة ممن لا يناسبهم هكذا طرح، وهؤلاء من النخب العسكرية والمالية والسياسية، هؤلاء الذين كادوا أن يلتهموا كل شيء، حتى في الحزب الحاكم. أنا أعتقد أن الحزب الحاكم في أي بلد ينبغي أن ينظر إليه على أنه ثلاثة أنساق، الحاكم فعلياً، والرديف الثاني الذي يهيئ نفسه للانطلاق باتجاه النخب الأولى، والنسق الثالث هذا الذي يسوق كل شيء باسمه، وهو لا يملك شيئا، وهذا هو الذي يشعر بمرارة الموقف لأنه مواجه له، ولأنه داخل الدائرة... باسمه تنهب البلاد وهو لا يملك شيئاً... هذا الأمر ينسحب على أنساق أخرى، أنساق بعينها، مجموعات وليست أفرادًا، مثلاً فئة إثنية، المتنفذون يحكمون باسمها فيما من هم في القاع جياع. أنا أعرف أن في البعث ألوف الجياع يحكم باسمهم. وكي لا أبسط المسألة، أقول إن هؤلاء جاهزون لفعل جديد".
للأسف، تبدّدت القوى التي يمكن التأليف بينها وتوحيدها بتعزيز الشعور بالانتماء إلى الوطن لديها، وكُمّت الأفواه عن أي حديث أو خطاب من هذا النوع، خطاب موجّه إلى السوريين جميعًا، يكسب ثقتهم، ويشعرهم بالمسؤولية أمام مشروعٍ جامعٍ، يتعلق بكرامتهم جميعًا، وبإنشاء دولة تتسع للجميع، ليحل مكانه خطاب التقسيم واحتكار الوطن والوطنية وإقصاء الآخرين، وبقي صوت السلاح الأعلى، وبقيت المعارك في الميدان هي التي تقود الحراك السياسي إلى بازارات العرض الرخيص، تُعرض فيها سورية عارية، جاهزة لاقتطاع أطرافها، وبقر بطنها، واستخراج أحشائها.
الطيب تيزيني يحوّل الفضاء الأزرق إلى لون الحداد، متشحًا بالسواد، ينضح بالدموع، من كل أطياف الشعب السوري وشرائحه. من نعوه يشكلون مروحة واسعة من الموالاة والمعارضة، وهذا يدلّ على حلم "الطريق الثالث" الذي اغتيل في الصدور، يتجدّد رثاؤه والبكاء عليه بموت الطيب. من صمتوا سنوات خلال الحرب السورية ليسوا ضد ثورة شعبٍ مقهور مقموع، وليسوا رماديين كما وُصفوا، إنهم كانوا ينتظرون قطار الطريق الثالث في محطاتٍ دمرها عنف النظام وعسكرة المعارضة وارتهان الأطراف كلها إلى الخارج، وترك البلاد رهينة السلاح والتطرّف الديني والمذهبي والقومي.
رحل الطيب، بكل طيبته وحكمته، فالموت حق، لكن ضميره سيبقى حيًا بما ترك من أفكار ومقولات وكتب وأبحاث. لروحه السلام، ولنا من بعده حسن الختام، نحن من بقينا على مشارف الهاوية، نمسك بلادنا قبل السقوط الأخير.