خطبة البشير الأخيرة للجدران

خطبة البشير الأخيرة للجدران

11 مايو 2019
+ الخط -
شتّان بين جنرالٍ يحمل الأوسمة وجنرال تحمله الأوسمة. أعني شتّان بين رئيس خلع الكرسيّ في ذروة سلطته ورئيس خلعه الكرسيّ في غروب سلطته. أعني شتّان بين الجنرال عبد الرحمن سوار الذهب والجنرال عمر البشير. الأول يرقد الآن مطمئنًّا في قبر وقور، محاطاً بالزهور وأدعية شعب بأكمله، والثاني يقبع في قبر متحرّك، محاطاً بالمتربصين ولعنات شعب بأكمله. كلاهما حكما السودان، غير أن السودان وحده قرر، في النهاية، من يُخلّد ومن ينسى. من يُكرّم ومن يكنس.
تلك عظةٌ لن يعتبر بها عمر البشير، حتى في أوج محنته الحالية، إذ على الأرجح أنه يقف خطيبًا، الآن، على جدران سجنه لا على أسماع شعبه، رافعًا عصاه، مردّدًا بغضب: "لا كرامة لزعيم في وطنه"، اعتمادًا على قناعته التي لا تقبل الشك والردّ، بأنه كان رئيسًا جديرًا بمنصبه، وبأنه قدّم لشعبه ما لم يقدّمه رئيس قبله أو بعده، حتى وإن شكا هذا الشعب العاقّ من استبداده، فقد كان يحمل في رأسه مشاريع تطوير وتحديثٍ لا تقبل العرقلة بالحريات والكرامات وحقوق الإنسان، وعلى الشعب أن يتنازل عن هذه الترّهات، في سبيل تحقيق الأهداف الأسمى والأثمن.
سيقول الرئيس البشير، في خطبته الأخيرة للجدران، إنه كان على صوابٍ في خططه الاقتصادية المحكمة طوال ثلاثين عامًا من حكمه، على الرغم من أنه أوصل الاقتصاد السوداني إلى حضيض المراتب، وأدخله في طرقٍ وعرة، باستفحال الأزمات المعيشية، وإهمال القطاعات الإنتاجية، غير أن الانحراف عن الهدف ليس ذنبه، بل جريرة "شبكات فسادٍ مترابطةٍ استهدفت تخريب الاقتصاد القومي من خلال سرقة أموال الشعب"، كما كان يردّد دائمًا، متغافلًا عن حقيقة أن فساد حكمه هو ما هيأ بيئةً خصبةً لتلك الشبكات. وسيتابع الرئيس للجدران: السودان يمتلك مقومات زراعية تعدّ الأكبر في المنطقة العربية، بواقع 175 مليون فدان صالحة للزراعة، ومساحة من الغابات تقدر بنحو 52 مليون فدان، وكان جادًّا في استغلال تلك المساحات، لولا اضطراره إلى الانشغال بقمع المعارضين الذين ضيعوا على السودان هذه الفرصة الثمينة.
وقد يستطرد فيقول إن السودان ينفرد عن الدول العربية الأخرى بامتلاكه 102 مليون رأس من الماشية، ولديه مراع طبيعية مساحتها 118 مليون فدان، ويتمتع بمعدل أمطار سنوي يزيد على 400 مليار متر مكعب، وكان في نيته أن يوظف تلك القطعان في خدمة اقتصاد بلده، لولا أنه أصيب باضطرابٍ في بصره، جعله يرى في الشعب كله "قطيعًا" من الخراف التي لا تصلح إلا للسلخ والذبح والشيّ.
أمّا في أسوأ الأحوال، وبعد أن ينتظر الرئيس وصلة التصفيق من جدران سجنه، فقد يقول إنه ليس في وسع أحد أن يحمّله مسؤولية تردي أوضاع بلاده، لأن تلك الموارد ظلت غير مستغلة، طوال تعاقب أسلافه من الزعماء على السودان خلال 63 عامًا منذ استقلال البلاد العام 1956.
ولأن صمت الجدران "علامة الرضا"، وفق الطغاة، فسيدافع البشير عن قراره بتفتيت بلاده، والموافقة على استقلال دولة جنوب السودان، لأنه "يحترم خيارات الشعوب في تقرير مصيرها"، على الرغم من أنه لم يحترم خيار شعبه الأساس في تقرير مصيره، بل داس على هذا الخيار، وشطبه من مفكرة دماغه. وعلى الرغم أيضًا من أن انفصال جنوب السودان كبّد بلده خسارة 75% من إنتاج النفط الذي كان يبلغ 470 ألف برميل يوميًّا قبل الانفصال العام 2011، والذي كان يعدّ المصدر الرئيسي للعملات الأجنبية لاستيراد المواد الغذائية، فضلًا عن أنه اعتبر سابقة سيئة الصيت قد تشجع دولًا عربية أخرى على القبول بصيغة التفتيت.
في الختام، لن يصفق أحدٌ لخطبة الطاغية عمر البشير، ولا حتى الجدران التي تمتلك آذانًا قابلة للسمع، ربما أزيد بكثير من آذان الطغاة المبتلاة بالصمم عن أنين شعوبهم. وعلى الأرجح لن تقبل تلك الجدران، ولا حتى بتبادل المواقع بينها وبين طغاةٍ، كالبشير وأضرابه.
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.