العرب والانتقال من العسكر إلى العسكر

العرب والانتقال من العسكر إلى العسكر

20 ابريل 2019
+ الخط -
نجح الحراك الاحتجاجي المشهود، في أكثر من بلد عربي منذ سنة 2011، في كشف عزلة الأنظمة الشمولية ومحدودية شعبيتها، وأخبر بفشلها في إدارة شؤون الدولة، والاستجابة لتطلّعات الأجيال الصاعدة، وتوقها إلى الحرّية والعدالة، والكرامة والرفاه. وكسر الاحتجاج الشعبي هاجس الخوف من الدولة البوليسية القامعة، وفتح الميادين ومنابر الإعلام لتتعالى أصوات الغاضبين على الحكم الأحادي، على نحوٍ مكّن المواطن من افتكاك الحق في التعبير والنقد، وجعله ينخرط بقوّةٍ وكثافةٍ في الشأن العام. ولكن يبدو من متابعة صيرورة الفعل الاحتجاجي أنّ قدر العرب أن يعيشوا طويلا تحت وطأة الاستبداد، فيدركوا ويلات الحكم السلطوي، ثمّ يثوروا عليه، فيستلم الجيش مقاليد السلطة، ويعيد تدوير الاستبداد، والأمثلة في هذا الخصوص كثيرة.
في الحالة المصرية مثلا، صنعت المؤسّسة العسكرية منذ عقود الرؤساء، وحمت عروشهم، وهيمنت على المجال العام، وتلبّست مفاصل الدولة، حتّى أنّ جُلّ المؤسّسات الحيوية خادمة لها أو ملحقة بها. وأدّت السياسات التسلّطية في مصر إلى اندلاع ثورة 2011 التي رفعت شعار "عيش، حرّية، عدالة اجتماعية"، وأفضى الضغط الاحتجاجي إلى إطاحة رأس النظام الحاكم (حسني مبارك)، لكنّ المؤسّسة العسكرية لم تغادر عمليّا السلطة، بل ظلّت حاضرة في المشهد السياسي، من خلال المجلس العسكري الذي ساهم في توجيه المرحلة الانتقالية وإدارتها. وبمجرّد صعود الإسلاميين إلى الحكم، وتعثّرهم في مواجهة الموجة المطلبية العالية، والأزمة الاقتصادية الخانقة، غضّ الجيش الطرف عن امتداد حركة تمرّد المصريّة، واغتنم الظرف 
الاحتجاجي، ليُصادر العملية السياسية والتجربة الانتقالية الديمقراطية، ويقوم بتصعيد المشير عبد الفتّاح السيسي إلى قيادة البلاد بديلا عن أوّل رئيس مصري منتخب. وتبع ذلك إغلاق المجال العام، والتضييق على الحرّيات العامّة والخاصّة، وشنّ حملات اعتقال واسعة في صفوف المعارضين والناشطين في حقوق الإنسان. ومن ثمّة استثمر العسكر حركة الشارع الاحتجاجي لصالحه، فظهر في البداية في صورة المنقذ، ليستولي لاحقا على مقاليد السلطة، ويُعيد إنتاج الاستبداد.
وفي ليبيا المجاورة، حكم العقيد معمّر القذّافي أربعين سنة، وركّز أركان حكم فرداني، لا مؤسّسي، ينبني على الاحتفال بكاريزما القائد العسكري، وتجميع السلاح والثروة والاستئثار بالسلطة، والاعتماد على نموذج اقتصادي، ريعي، غير منتج. وأنتجت سياسات النظام القامعة انتفاضةً احتجاجيةً عارمة سنة 2011، طالبت بتكريس الحرّيات، وتأسيس دولةٍ مدنيةٍ، وتأمين تداول سلمي على السلطة، وأفضت إلى تقويض حكم العقيد. وبعد ظهور نواة دولة مدنيّة، تعدّدية، تواجه البلاد من جديد مخاطر عسكرة الدولة وعودة الدكتاتورية، عقِب إعلان اللواء المتقاعد خليفة حفتر الهجوم على طرابلس، ضاربا عرْض الحائط بالعملية السياسية، وبالمقترحات الأممية لتسوية الأزمة الليبية. ولا يعترف الرجل بحكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليّا، ولا يروق له تحكيم الآليات الدستورية والانتخابية في التنافس على السلطة. ولا يرغب في أن يكون جزءا من المنظومة الحاكمة، بل يُريد أن يكون الحاكم العسكري المتنفّذ في ليبيا. ويؤدّي الاستيلاء على السلطة بقوّة السلاح إلى تقسيم اللّيبيين، وترحيل آلاف المدنيين، وتوزيع آخرين بين قتيل وجريح. والغاية إقامة جمهورية ضبّاط، تستعيد النظام الشمولي، وتُصادر الحلم الديمقراطي، وتزجّ البلاد في أتون حربٍ أهليّةٍ وخيمة العواقب. ومن ثمّة تواجه ليبيا خطر الوقوع من جديد في ربقة العسكر، في ظلّ صمت المجتمع الدولي، وتخاذل الدول التقدّمية الكبرى، واستقالة دعاة التنوير في العالم العربي.
في الحالة السودانية، نجح الحراك الشعبي بقيادة مكوّنات المجتمع المدني في تشكيل كتلة 
اجتماعية احتجاجية ضاغطة، أربكت النظام العسكري الحاكم، وأدّت إلى إطاحة المشير عمر البشير بعد 30 سنة من تربّعه على عرش السلطة. وبمجرّد الانقلاب عليه، أمسك مجلس عسكري انتقالي بزمام الحكم، فأوقف العمل بالدستور، وحلّ البرلمان ومجالس الولايات، ووعد بمكافحة الفساد والمحسوبية، والاستجابة لمطالب المحتجّين في الإصلاح والتغيير. وهذه الوعود ورديّة، جاذبة، لكنّ الوقائع تفيد بأنّ الجيش هو من يمارس الحكم عمليّاً، خصوصا أنّ تركيبة المجلس الانتقالي تتكوّن من عسكريين، ولا تشتمل على مدنيين. كما يتمتّع المجلس بصلاحياتٍ واسعة، فهو هيئة سيّدة نفسها، تمتلك قدراتٍ تشريعية، وتنفيذية، ولا تخضع لجهةٍ رقابيّةٍ تتولّى محاسبتها. ومع أهمّية ما حقّقه الشارع الاحتجاجي من مكاسب، فإنّ التوجّس من أن يُعيد النظام العسكري إنتاج نفسه يبقى قائماً. ومن غير المستبعد أن يُمدّد الجيش لنفسه الفترة الانتقالية (عامان)، ويؤخّر تسليم الحكم إلى المدنيين، لسبب أو لآخر، فيتمّ بذلك تدوير الاستبداد واستدامة الانتقال من العسكر إلى العسكر.
وفي السياق الجزائري، برهن ملايين المواطنين، بعد سنوات الصمت طوال العشرية السوداء، وعقدين من الحكم الأحادي، أنّهم قادرون على إدارة مشروع الاحتجاج على السلطة بطريقة سلمية، حضارية، لفتت أنظار العالم. وتمكّن المحتجّون من تحقيق مكاسب مهمّة، أبرزها ارتفاع سقف حرّية التعبير، وعودة الحيوية لمكوّنات المجتمع المدني، وانخراط المرأة والشباب بكثافة في الشأن السياسي بعد غَيْبة كُبرى. كما نجح المتظاهرون في منع عبدالعزيز بوتفليقة من الترشّح لعُهدة خامسة، وحالوا دون التمديد في ولايته الرابعة، ودفعوه إلى الاستقالة. وبدا واضحا أنّ مؤسّسة الجيش لزمت سياسة ضبط النفس، وتعاملت بطريقة تفهّمية، احترافية مع الحالة الاحتجاجية العارمة، ولم تنزلق إلى مربّع استخدام القوّة المفرطة ضدّ المتظاهرين، على خلاف ما يحدث في دول عربية أخرى، لكنّ الجيش لم يقبل عمليّا بتغيير جذري لهياكل السلطة، ولم يدفع نحو تسليم الحكم إلى شخصيّاتٍ، تحظى بتأييد الحراك الاحتجاجي، بل آثر الاحتكام إلى الدستور (المادّة 102) لسدّ الفراغ الحاصل بعد رحيل بوتفليقة. وجرى استدعاء وجوه قديمة، سئمها الشارع الجزائري، لإدارة دواليب الدولة في المرحلة الانتقالية. وكان في الوسع تطعيم منظومة الحكم بوجوه جديدة، وأخرى شبابية ممثلة للحراك، والتشجيع على مدّ جسور الحوار والتواصل بين المحتجين وأصحاب القرار على نحوٍ يساهم في بلورة إدارة توافقية للمرحلة الانتقالية، ويجنّب البلاد الاحتقان، ويبعث رسائل طمأنة إلى عموم المواطنين.
يتبيّن مما تقدّم أنّ المؤسّسة العسكرية، في سياق عربي، منخرطةٌ في السياسة، متمكّنة من جلّ مفاصل الدولة، وهي صانعة الحاكم وحامية عرشه، حتّى إذا تراجع رصيده الشعبي، أو ثار 
عليه الناس، تقدّم العسكر بديلا عنه. والغاية ضمان استمرار الدولة والمحافظة على مصالح النظام القديم. ويُفسّر اعتلاء الجيش كرسيّ السلطة بعد حراك الشارع الاحتجاجي، بأسبابٍ من بينها تمتع الجيش بجاهزية عددية وتقنية وميدانية معتبرة، وصلاحيات دستورية واسعة، وهو يعتبر نفسه مؤسّسا تاريخيّا لحقبة الاستقلال، ووصيّا على الشعب والدولة. ويمتدّ العسكر في ظلّ الفراغ الحزبي والتصحّر السياسي الذي تكرّسه الدكتاتورية. وفي لحظة الانفجار الاحتجاجي الشعبي، كثيراً ما تكون قوى المجتمع المدني (أحزاب، نقابات، جمعيّات حقوقية...) التى أرهقها القمع، وأضنتها الملاحقات الأمنية والمعتقلات، مشتّتة، مبعثرة، لا تقف على أرضيةٍ أيديولوجيةٍ واحدة، ولا تحظى بعمق شعبي معتبر، ولا تتوفّر على رؤيةٍ برامجيةٍ واضحة، وليست لديها قيادات محلّ إجماع وطني، ولا لديها خطّة طريق مفصّلة لإدارة مرحلة ما بعد رحيل الدكتاتور، فيغتنم الجيش حالة القصور المدني تلك، ليقدّم نفسه بديلا عن الجميع. وما يلبث أن يستولي على كلّ مقاليد الحكم، ويفرض نفوذه على السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية، وينصرف إلى اختراع دستور جديد، أو تعديله على مقاسه، ويتمّ توظيف أقنية تشكيل الوعي الجمعي (المؤسسات الإعلامية، التعليمية، الدينية...) لنشر ثقافة تمجيد العسكر، وتبرير سياسات النظام الشمولي. وفي حال الموجة الاحتجاجية العربية الرّاهنة، يحاول الجيش الانتقال من وظيفته النمطية الردعية التقليدية ليضطلع بوظيفةٍ جديدةٍ، تتمثّل في احتواء الغضب الشعبي، والظهور في مظهر المنقذ من الفوضى. وهو، إذ يضطلع بمسؤولية إدارة دواليب الدولة، بشكل مباشر أو غير مباشر، يضع نفسه تحت محكّ التقويم الشعبي لأدائه في تسيير شؤون الناس. ويُفترض أن يستجيب لمطالب المواطنين وتطلّعاتهم إلى التمدين، والأمان، والكرامة والدمقرطة. وإن لم يفعل، يفقد ما تبقى له من رصيد ثقة لدى الناس، وسيُواجه بموجات احتجاجية راديكالية واسعة.
ختاماً، الحراك الاحتجاجي العربي حالة تعبيرية مضادّة للنظام السلطوي، وحريّ بمؤسّسة الجيش، بدل الهروب إلى الأمام، والالتفاف على الفعل الاحتجاجي، وإعادة إنتاج النظام الشمولي، أن ترافق المسار السياسي الانتقالي، من دون أن تتدخّل فيه أو توجّهه بغاية الهيمنة أو الاحتواء. بل المطلوب أن تحميه من محاولات الإرباك والاختطاف، الداخلية أو الخارجية، وتهيئ عاجلاً الظروف المناسبة لتسليم الحكم إلى المدنيين. ذلك أنّ الحاجة أكيدة، في السياق العربي، إلى الانتقال من حقبة دولة الجيش إلى عصر جيش الدولة، تحقيقا لتطلّعات الشعوب إلى نظام ديمقراطي، مؤسّسي، وحكم مدني تعدّدي.
511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.