ارتدادات الزلزال العربي

ارتدادات الزلزال العربي

19 ابريل 2019
+ الخط -
يؤكّد ما يجري في الجزائر والسودان أن زلزال الثورات العربية كان أعمق مما تنبأ به كثيرون، وأن الأرض لمَّا تستقر بعد، فالزلازل الارتدادية مستمرة، وعلى كل الطغاة العرب أن يتحسّسوا رؤوسهم. وتثبت الأحداث أن الاحتجاجات الشعبية التي انطلقت أواخر عام 2010 كانت مفصلا تاريخيا، ولم تكتمل، فالظواهر الكبرى تستغرق سنوات وعقودا حتى تستقر، وقد نرى أنباء ذلك بعد حين. وهذا يعني أنه لا مبرّر، بعد، لليأس من إمكانية التغيير، كما أنه لا توجد ضمانة، بعد، للأنظمة الدكتاتورية، كي تنام ملء جفونها ثقة واطمئنانا أنها أجهضت تلك الإمكانية. ومع ذلك، لا بد من الحذر، إذ إن الشعوب العربية ونخبها إن لم تُحسن التخطيط والبذار، فإننا جميعا سنحصد العلقم.
المتابع لتطورات الساحتين، الجزائرية والسودانية، يلحظ صراع الإرادات بين الشعوب في الشوارع وما تعرف بالدولة العميقة وأجنحتها وأجهزتها. ثمّة جماهير في الميادين تخشى أن تئد طموحاتِها وتُضَيِّعَ تضحياتها وَتُحْبِطَ آمالها أجهزة الأمن والعسكر، كما جرى في مصر. وثمّة من هم في المؤسسات العسكرية والأمنية، ومن والاهم، من ينظرون إلى الاحتجاجات الجماهيرية ضد واجهات النظم الرسمية أنها حُصُنُ طروادة، يتسللون عبرها إلى سدة الحكم المباشر، أو على الأقل للحفاظ على خيوط اللعبة في أيديهم، بشكل ننتهي من حيث بدأنا، ولكن عبر لافتات وأطر ووجوه جديدة.
أيضا، واضح جدا أن ثورة على الفساد والظلم في بلد عربي ما ليس شأنا محليا، بل هو شأن 
إقليمي ودولي. كان هذا هو الحال في الأمس، وهذا الحال الواقع اليوم. وبالعودة إلى الوضعين، السوداني والجزائري، إنك ترى ذلك الاستعجال السعودي والإماراتي، وغيرهما، للدخول على الخط، كما ترى الاندساس الأميركي والفرنسي، وغيرهما، في الحالتين. لماذا؟ لأن السعودية والإمارات، اللتين تقودان محور الثورات المضادة، تدركان أن تغييرا يتم بإرادة شعبية في أي دولة عربية يعني تجربةً قد تتكرر في بلاد عربية أخرى. هما لم ينسيا وقع الدومينو الذي أحدثته ثورة تونس عام 2011، حتى أنها وصلت إليهما بعض إرهاصاتها. وبالتالي، لإجهاض تغيير بإرادة شعبية في دولتيها، لا بد من ضربات استباقية خارج الحدود. أما القوى الدولية التي تمارس سياسات إمبريالية في فضائنا، وتشمل روسيا أيضا، فإنها لا تريد تغييرا غير متحكّم به، ينتهي إلى أن يتراجع نفوذها في دولٍ تعدّها تابعاً أم وكيلاً لها.
تلك حساباتهم. وللأسف، قد لا نستطيع تغييرها، ولكننا نملك القدرة على تجنب الأخطاء التي ارتكبناها في ثورات "الربيع العربي" الموءود. وهم قد يكونون نجحوا في وأد تلك الثورات، لكنهم لم ينجحوا في إطفاء جذوة الجمر تحت الرماد، ويُستبعد أن ينجحوا، فكل المعطيات تقول إن انفجارا عظيما آت لا محالة في المنطقة العربية. ولمن أراد الدليل، فلينظر إلى الجزائر والسودان، فكيف تكون كل العناصر القابلة للاشتعال بجانب النار ونمنّي أنفسنا بأنها لن تمسك بها وتنتج حريقا هائلا؟ الفساد باق كما هو، بل تضاعف. القمع كما هو، بل تزايد. وانسداد الأفق، والعجز عن تصور مستقبل واعد ازداد سوداوية.
ما نراه حتى الآن أن جماهير الجزائريين والسودانيين ترفض أن تسقط ضحية احتمالات تلاعب العسكر. "إما النصر أو مصر"، هذا أحد شعارات ثورة السودان، وهو تعبيرٌ واع عن خشيةٍ من سرقة الثورة واستبدال جنرالٍ محل جنرال، تماما كما سرقت ثورة مصر، فحل عبد الفتاح السيسي محل حسني مبارك. انتهت مصر إلى الأسوأ، ولا يريد الجزائريون والسودانيون مصيرا مشابها. ولكن الإنجازات لا تتحقق بالتمنّي والشعارات، والخشية ليست من الجماهير، ولكن من النخب التي تتصدّر التغيير أو تركب موجته.
في السودان مثلا، سارع المجلس العسكري الانتقالي إلى التودّد للرياض وأبو ظبي. هذه بادرة 
سيئة. الأخطر أن تفعل قيادات الأحزاب والحراك في الشوارع الأمر ذاته. حينها، تكون كمن أدخل الدبَّ كرمه. وفي الجزائر، ترى نخبا وأحزابا تعتبر رئيس الأركان الجزائري، أحمد قايد صالح، كأنه الحكم العدل ضد الشخصيات المدنية الضعيفة في واجهة الحكم، وكأنها تخرج عن طوعه، أو جيء بها رغما عنه! يذكّرنا ذلك بثورة يناير في مصر عام 2011. الأخطر أن تمارس الثورات منطق إقصاء مكوناتٍ أساسيةٍ في مجتمعاتنا، فننتهي بحروبٍ حزبيةٍ وفكريةٍ وأهلية، يطلب الناس بعدها تدخل الجيش ليضبط الوضع بصرامة. وهكذا نعود من حيث بدأنا! مثال على هذا التخوف الدعوات التي يطلقها بعضهم في السودان اليوم لا لحظر حزب البشير فحسب، بل وحتى حزب الإخوان المسلمين، الذي انشق عن حزب آخر انشق عنهم. أي أننا أمام انشقاقين. ألم نتعلم بعد أن تصفية الحسابات الحزبية والسياسية والإيديولوجية لن تعود علينا إلا بالكوارث؟ يتقاتل هؤلاء على اقتسام كعكةٍ محصنةٍ وراء أسيجةٍ وجُدُرٍ لم يملكوا مفاتيحها بعد!
باختصار، صحيحٌ أن الأمور لم تستقر بعد عربيا، وقد نكون على موعدٍ مع انفجار حتمي، عاجلا أم آجلا، ولكن هذا لا يعني أن ثمّة ضمانة أن يكون أي تغيير قادم إيجابيا، بل قد يكون كارثيا علينا، إن لم نُحسن التخطيط والتصرّف. وفي كل الأحوال، أكان التغيير إيجابيا متحكّما به وبمخرجاته، أم كارثيا منفلتا من أي ضوابط، ستكون النتيجة على أنظمةٍ عربيةٍ كثيرة وبالاً، فصيغة وجودها تصطدم بسنن كونية.