ألفة النوع

ألفة النوع

15 ابريل 2019

(سارة غودناف)

+ الخط -
بحسب الاعتقاد السائد، لا تجد الغالبية العظمى من النساء حرجاً في التعبير عن ذواتهن من دون عناء كبير، يفعلن ذلك بكل سهولة ويسر، ولا سيما في الأوساط النسائية حيث يشعرن بالراحة والأمان. وتتواصل النساء في ما بينهن بدون الحاجة إلى أي مقدمات، يقدمن على البوح من أجل الفضفضة، يجري هذا العرف بينهن بشكل طبيعي، لا يحتمل التعقيدات. وقد يتم ذلك ببساطة متناهية في أثناء لقاء تعارفٍ أول. يحدث التداعي الحرّ المنفلت من أي ملمح تحفظ أو محاذير، تحكي المرأة بدون تردّد عن أدقّ مشكلاتها وأكثرها خصوصية في حضرة امرأة غريبة عنها، ولا تتوقع منها في المقابل سوى التعاطف والمحبة والاكتراث والرغبة في المساعدة والتضامن غير المحدود، بل تهيئ نفسها لسماع حكاية محدثتها، ولا تستغرب من بوحٍ موازٍ بالضرورة. ويبدو مألوفاً وعادياً جداً الاستماع إلى تلك الحوارات الخاصة التي لا تخلو من حميميةٍ بين نساءٍ غريبات، جمعتهن مصادفة وجودهن في المكان نفسه. وللوهلة الأولى، قد يخيل للمستمع أنهن أعزّ الصديقات، وأن لديهن تاريخاً طويلاً مشتركاً، ومعرفة عميقة تبيح لهن تبادل الأسرار والهموم. ويبقى هذا النموذج الأكثر شيوعاً بين صفوف النساء، وبعيداً عن أي تصنيف جندري. لكنّ ملاحظاتٍ كهذه كفيلةٌ بتأكيد تفوّق الأنوثة في مجال التواصل الإنساني، والقدرة على الاستماع والاكتراث والتفاعل، باعتبارها دلائل الذكاء العاطفي الذي يميز المرأة، ويجعلها متمكّنةً من مهارات اجتماعيةٍ، توظفها ببراعة أكثر من الرجل. 
وهذا ما تؤكّده أبحاث ودراسات اجتماعية متخصصة. وتفسر هذه الطبيعة المشتركة تفضيل هذه الفئة من النساء الانخراط في أنشطة اجتماعية، ذات طبيعة أنثوية حصراً، يحرصن على خلوّها من حضور الرجال، الكفيل بإفساد المتعة التي ينشدنها في أجوائهن الحرة، إذ يفرض عليهن قيوداً نفسية ورقابة سلطوية تحدّ من حريتهن في التصرف على سجيتهن، بل يجدن أنفسهن مضطراتٍ للتكلف، والتصرف بشكل مغاير لحقيقتهن، يجلسن بتحفظٍ، متصنعات الرصانة والوقار كي لا يُساء فهمهن.
ولا يختلف المشهد كثيراً في مجتمعات الرجال الذين يتحمّسون، بدورهم، لجلساتٍ ذكورية محضة، فيما يمكن أن نسميها ظاهرة ألفة النوع، لأن المشترك والمتشابه بين الأفراد يولّد حالة من الألفة والاطمئنان، ويشكل مبرّراً للصداقة، يعبر الرجال في جلساتهم عن لغةٍ خشنةٍ وروح تنافسية، ورغبة في الانفلات، يطلقون العنان لأنفسهم للتفوه بما يحلو لهم من الألفاظ غير اللائقة المسكوت عنها تأدباً في حضرة السيدات. يستعرضون نجاحهم المهني، ويخوضون في تفاصيل دقيقة متعلقة بالعمل، لا يفكرون بطرحها مع نسائهم، لقناعتهم بأنهن لسن معنيات. يحدث كثيراً أن تنفصل النساء عن الرجال في المناسبات الاجتماعية بشكل غريزي ليس له علاقة بالتدين تحت عنوان المشتركات. غير أن ثمة فئة لعلها الاستثناء من كلا الجنسين، وهي التي تعاني من الاغتراب، ومن عدم القدرة على الانسجام، والعرضة للرفض والنبذ من المجموع، لكونها خارج التصنيف باهتماماتها المختلفة غير المنسجمة مع السائد، فتتهم النساء من هذا الصنف بالاسترجال، فيما يعتبر الرجال مخنثين أو متشبهين بالنساء لمجرد اختلاف اهتماماتهم بقضايا يعتبرها المجموع ضمن منطقة الأنوثة. وهذا ليس مستغرباً على الفكر المنمّط، الذي يطلق أحكاماً جاهزة تفتقر إلى الدقة والموضوعية، والذي لن يتوانى عن التشكيك بميولهم الجنسية كذلك، بحيث يدفع النموذج المختلف الثمن، ويطلب منه أن يقدّم المبرّرات، وأن يتحمل الإدانة. هذا التقسيم الحرفي للأدوار والاهتمامات مسؤول بالدرجة الأولى عن تشوّه العلاقات الإنسانية بين الرجل والمرأة، وصعوبة عقد صداقات حقيقية بينهم، قائمة على الاحترام والندّية والوضوح، بعيداً عن الافتعال والادعاء، في حالات عديدة ما يبني مزيداً من الحواجز بين جنسيْن، المفترض أنهم شركاء متكاملون متضامنون. ويزداد التشويش والالتباس وعدم التكافؤ في المجتمعات المتخلفة ذات النمط الذكوري المتسلط، وهي المسؤولة عن الإخفاق الاجتماعي والإنساني الذريع لهذه الأجيال غير الصاعدة، التائهة المشحونة بالريبة وسوء الفهم، والالتباس غير القابل للتبدّد في المدى المنظور.
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.