الجزائر.. حراك القطيعة والتغيير الجذري

الجزائر.. حراك القطيعة والتغيير الجذري

26 مارس 2019
+ الخط -
يمثل الحراك في الجزائر، منذ 22 فبراير/ شباط الماضي، منعطفاً سياسياً واجتماعياً، فقد كسر حاجز الخوف والصمت، وأثبت أن مكونات الشعب قادرة على اجتراح ملحمة تاريخية جديدة، ورفع التحدّي في وجه ذهنية سلطوية نشأت على منطق الحزب والرأي والحل الواحد. كانت هناك احتجاجات قطاعية في السنوات الأخيرة في الجزائر، وكل مسؤول حكومي كان ينشر الارتياح، ويدّعي أن قطاعه على أحسن ما يرام، ولكن تلك الاحتجاجات لم تأخذ بعداً سياسياً، وكاد الجميع أن يفقد الأمل، بسبب اليأس والإحباط بين الشباب خصوصاً، لا سيما عندما راهن شبابٌ كثيرون على خيار الهجرة غير النظامية وقوارب الموت، غير مكترثين بالمآسي، لأن الهم والحلم الوحيد هو الوصول إلى أوروبا. ولذلك فضّل هؤلاء ركوب الأهوال والمخاطر، وأمواج المتوسط القاتلة، على أن يظلوا مغتربين في وطنٍ لم ينصفهم، ولم يمنحهم فرص الترقي وأسباب الاستقرار.
مع انطلاق الحراك الشعبي، تغيرت المعادلة، وتحقق الانتصار على التردّد والتوجس، وتغيرت اللغة، وكذا الخطاب والمشاعر والسيكولوجيات. ومعلومٌ أن الشباب حاول، قبل هذا الحراك غير المسبوق، الانتفاض في بدايات الربيع العربي وفي السنوات التي تلته، لكن الصحافة الموالية، كما الأحزاب في فلك النظام، كانت تشهر ورقة المذابح وحمامات الدم في العشرية السوداء، فكلما كانت هناك مبادرات للاحتجاج على الأوضاع والأزمات، وحالة الاحتباس السياسي والجمود الديمقراطي، كانت تنبري معظم المنابر الإعلامية للتذكير بالمجازر القديمة، واستحضار إنجازات الرئيس المقعد، عبد العزيز بوتفليقة، المتمثلة في إرساء دعائم الوفاق المدني والمصالحة الوطنية. كما أن اختلال موازين القوى السياسية، بسبب تدمير النظام
 المعارضة الفاعلة والمؤثرة، وميله إلى صناعة أحزابٍ على مقاسه، أنتج مؤسسةً تشريعيةً هشّة، وغير ذات مصداقية، كون أغلبيتها تتشكل من أحزاب السلطة التي لا تتقن سوى التصديق والتصفيق لكل ما يسوقه النظام.
هناك مسألةٌ نفسيةٌ ترتبط بالكبرياء المتجذّرة في شخصية المواطن الجزائري. ويعد هذا العنصر جوهرياً في ثبات نشطاء الحراك، وصمودهم في وجه عروض النظام وإغراءاته، وذهابهم إلى الحد الأقصى في مطالبهم، وخصوصاً أن الحراك الشعبي يعتبر أن رموز النظام اغتصبت السلطة، وانتهكت الحقوق السياسية. ولا يمكن منح الشرعية لهذه المجزرة الديمقراطية، وإن عمد النظام وأركانه والأحزاب التي كانت تشكل شرعيته إلى الاحتفال بالعرس الديمقراطي الذي أبهر العالم، والذي هو صناعةٌ شعبيةٌ خالصة، هندسها الشباب. ومن خلال هذا الحراك، المتنوع والمتعدّد، يبدو جلياً أن الشباب الجزائري يدافع عن مشروعٍ جديد، بعد أن عانى طويلاً من التهميش، ومن تراكمات نظام فاسد حطّم آماله، على حد تعبيره، علماً أن ذهنه يخلو من مشاهد القتل والعنف والجمر والدم، ما يفيد تحرّره من كوابح ومثبطات عديدة.
وترجع سلمية المسيرات، وتحضرها، بالأساس، إلى طبيعة تركيبة الحراك، المجتمع الجزائري، فهو مؤلف من أجيال ثورة الاستقلال وجيل العشرية السوداء والجيل الحالي. وهناك عامل الاستفادة من التداعيات السلبية للربيع العربي، خصوصاً في سورية وليبيا واليمن. ويفسر هذا الحرص على السلمية، المنسوب العالي من الوعي الشعبي. كما تعكس الشعارات التي رفعها الحراك، في خمس مسيرات أساسية ومفصلية، أنه أصدر الحكم المبرم على نظامٍ بات مشلولاً، ودولة عميقة، نهشها فيروس المصالح والامتيازات والبيروقراطية. وحسم الأمر، معتبراً أن عجلة التاريخ لن تعود إلى الوراء، لأن الحراك يسعى من هذا الحراك الذي عمّ كل التراب الجزائري إلى القطيعة مع النظام الحالي، والتغيير الجذري للممارسات السياسية والاجتماعية والاقتصادية نحو الأفضل، وبما يضمن لمختلف شرائح المجتمع حياةً حرّة كريمة، وخصوصاً أن الجزائر تعتبر أكبر دولة أفريقية، من حيث المساحة، بساكنة تزيد عن 42 مليون نسمة، يشكل الشباب، في هرمها، أكثر من 18 مليون نسمة. وتبلغ نسبة البطالة في صفوف هذه الفئة الاجتماعية أكثر من 26%، وهي تقريباً النسبة نفسها في صفوف الخريجين الجامعيين. ومعلوم أن نسبة التعليم العالي في الجزائر تتجاوز 47%، وهو ما يعني وجود نخبةٍ متعلمة 
صعبة على الانقياد والاستقطاب.
وتتوفر الجزائر على ثرواتٍ هائلة من النفط والغاز الطبيعي. ولكن، على الرغم من كل هذه الخيرات والمقدّرات، غرقت في أزمة مالية واقتصادية واجتماعية حادّة، منذ انهيار أسعار النفط في عام 2014. وقد جرّب الجزائريون مناورات النظام ووعوده في أربع ولايات للرئيس بوتفليقة. ويظهر أن النظام، بمختلف مستوياته ومكوّناته، لا يمكن أن يترك اللعبة السياسية والانتخابية مفتوحةً على المجهول، فهو يسعى، بكل الوسائل، إلى إحداث اختراقات في صفوف الحراك، قصد إنهاكه وتفكيك وحدته، ونسف تلاحمه. ولكن زخم الحراك والصورة الاستثنائية التي عكسها جعلا المشهد الحزبي الجزائري، بكل أطيافه ومرجعياته، ينخرط في سلسلة من المبادرات والسيناريوهات لتجاوز الأزمة السياسية، خصوصاً في ظل جنوح أركان النظام إلى الرغبة في الالتفاف على مطالب الحراك. فمنذ الشرارة الأولى للمظاهرات ضد العهدة الخامسة، ثم ضد تمديد العهدة الرابعة، ظهر أن النظام يراهن على الوقت، قصد امتصاص غضب الشارع، ومحاولة التأثير على معنوياته في رفع سقف المطالب. وما قدمه من عروض لم يلمس فيها الشارع ما يقنعه بالعدول عن التظاهر. ومع الوقت، أخذت دائرة البدائل في الانحباس، ما رسّخ الاعتقاد بأن النظام بات أمام أزمة سياسية خانقة، وخصوصاً أن الحل الدستوري والمؤسساتي بدا عاجزاً عن احتواء الأزمة.
لقد تمسّك الشارع برفض مقترحات النظام، المتمثلة في تعهّده بعدم ترشّح الرئيس بوتفليقة لولايةٍ خامسة، والإعلان عن تنظيم ندوة وطنية مستقلة، ستشكل ركيزة النظام الجديد، ومهامها إعداد مشروع دستور جديد، يعرض على الاستفتاء الشعبي، وتحديد موعد تاريخ إجراء الانتخابات الرئاسية. وتتضمن خريطة الطريق إنشاء لجنةٍ انتخابيةٍ مستقلة، للإشراف على الانتخابات الرئاسية، وتشكيل حكومة "كفاءاتٍ وطنية" لتنظيم الانتخابات الرئاسية. وتأكيد الحراك على شعارات مركزية، من قبيل "لا ندوة لا تأجيل... الرحيل يعني الرحيل"، و"ترحلوا يعني ترحلوا" و"ترحلوا كلكم" و"بوتفليقة ما تزيدش دقيقة"، هو بمثابة استفتاء شعبي حيال مقترحات النظام. غير أن هناك من يرى أن النظام سيمضي في تطبيق خريطته، مراهناً على استقطاب رموزٍ من الحراك والتفاوض معهم في الندوة الجامعة، والعمل على تعيين بعض منهم في حكومة التكنوقراط الانتقالية، لكن حظوظ نجاح هذا الحل تبدو ضعيفة، لأنه لا يرضي الجميع، ومن الصعب التسليم بسهولة عثور السلطة على الجهة التي ستحاورها في ظل رفض الحراك لها ولأركانها.
وليس مستبعداً لجوء النظام إلى تنازلاتٍ جديدة لصالح الحراك الشعبي، بهدف تأمين الشروط الملائمة لصياغة أرضية توافقية، يقبل من خلالها رموز الحراك التحاور مع السلطة، مثل تقديم رئيس الجمهورية وعداً بتقديم استقالته قبل انتهاء العهدة الرابعة في 28 إبريل/ نيسان، وإعطاء صلاحيات أوسع للحراك، في اختيار قيادة تمثله في أي تشكيلة حكومية انتقالية. ومع ذلك، يبقى العامل المحدد في هذا المسار عدم ثقة الحراك بنظامٍ يعتبره فاسداً ومستبداً وخانقاً للحقوق، وكابحاً للتطور الديمقراطي. ولم يتردّد إعلام النظام، في بداية الحراك، في التأكيد على أن هذا المنعطف لا يجب أن يتحوّل إلى مأساة، بل إلى نفس جديد للمسلسل الديمقراطي. والذهاب إلى جمهوريةٍ ثانيةٍ يقتضي خريطة طريق دقيقة.
وهناك من يعتبر أن من شأن تقديم بوتفليقة استقالته أن يشيع حالة من الانفراج والتنفيس 
السياسي، وستتلو هذه الخطوة عمليات أخرى، ناجمة عن تفعيل المادة 102 من الدستور الحالي. وهناك سيناريو التنحي النهائي للنظام، وانسحابه من المشهد السياسي، تجنباً لأي تصعيد أو مواجهة بين أركانه وبين الشارع. وفي هذه الحالة، يؤول القرار الفعلي للمجلس الأعلى للأمن، ليعلن حالة الطوارئ كما فعل سنة 1991، وتشكيل حكومة انتقالية تشرف على تنظيم الانتخابات، بيد أن هذا الخيار لا ينتج عنه تحقيق مطلب التغيير الجذري لمنظومة النظام.
إلى هذه السيناريوهات، تُضاف دعوة بعض أحزاب المعارضة السياسية إلى إقرار مرحلة انتقالية، لا تتعدى آجالها ستة أشهر، يتم خلالها نقل صلاحيات الرئيس المنتهية ولايته إلى هيئةٍ رئاسيةٍ، تضم شخصيات مشهوداً لها بالمصداقية والنزاهة والكفاءة، تتبنّى مطالب الشعب، ويلتزم أعضاؤها بعدم الترشح للانتخابات الرئاسية، وتتولى صلاحيات رئيس الدولة، وتعيّن حكومة كفاءات وطنية لتصريف الأعمال، وإنشاء هيئة وطنية مستقلة لتعديل قانون الانتخابات، بما يضمن إجراء انتخابات حرة ونزيهة. ويعتقد متابعون كثيرون لتفاعلات الوضع السياسي في الجزائر أن مراهنة الحراك الشعبي على الجيش وقيادته، لحمل الرئيس، ومن معه، على الخضوع لإرادة الملايين بالتنحّي، قد لا تنطوي على مصداقية كبيرة.