خرافة الجريمة الكاملة

خرافة الجريمة الكاملة

25 مارس 2019
+ الخط -
على الرغم من وعورة دروب الحياة، واستحالة المضي باتجاه وهم الغد الجميل، المشرق، المحفوف بالبهجة، في ظل الظروف الاقتصادية الضاغطة التي يرزح تحت ثقلها المواطن الأردني، المنكوب، والمثقل بشتى أصناف الأعباء المادية، ما يجعل أكبر إنجازاته في الحياة أن يغطي الراتب الضئيل الأسبوع الأول من الشهر الطويل، وهو الدخل المتآكل، سريع الذوبان، عديم البركة أصلاً، بفعل فواتير الكهرباء والماء والمحروقات، والوقود للسيارة المستعملة المرهونة، والهاتف والإنترنت، والعلاج، والمأكل والمشرب، والملبس من محلات التصفية الأوروبية التي توفر الملابس بأثمان معقولة نسبياً، ليبدأ بعدها مسلسل التدبير من تلبيس الطواقي، لغايات التحايل على شروط البقاء في حدّه الأدنى، والاقتراض غير الحسن من بنوك ليست رحيمة، لا تتوانى عن زج المتخلفين عن الدفع في السجون، والقلق الدائم على الأولاد ممن تخرجوا من الجامعات، وانضموا إلى طوابير العاطلين من العمل، الطامحين إلى هجرةٍ تقيهم شر الوقوع في شرك المذلة التي تترصدهم في حضن الوطن، وقد ضاق عن توق أبنائه إلى انفراج محتمل. على الرغم من كل ذلك الشقاء والبؤس، وضيق ذات اليد، والإحساس بهدر الكرامة إثر ملاحقة الرغيف المدعوم، والعجز المطلق عن مواجهة نظرات الصغار، المطالبين بالمزيد، واستنزاف الطاقة، وشل القدرة على التفكير المنطقي، والانقياد الكلي لسوط الواقع وشروطه المجحفة، مثل ثيران السواقي، حيث طاحونة الهم المعيشي الدائرة في حلقة معاناةٍ لا تنتهي... على الرغم من كل ما سلف من سوادٍ يلقي بظلاله على المواطن، والمفترض أن تحوله إلى كائن عبثي، عديم الحس بالآخرين، غير مكترث بأوجاعهم ومعاناتهم، غير أن الأردني، وعلى الرغم من التحولات الكبرى على الصعيد العربي الرسمي، ما زال يعتبر فلسطين شأناً داخلياً، يخص وجدان كل فرد على الأرض الأردنية، بغض النظر عن أصله وفصله، ومقر ولادته، بحيث يبدو ما يجري أحياناً في ملاعب كرة القدم من سلوكياتٍ قبيحةٍ، تقسم الناس إقليمياً إلى أردني وفلسطيني، ويتبادل في أثنائها جهلة متخلفون الألفاظ النابية السوقية، مشهداً طارئاً ومفتعلاً. وقد تجلت الوحدة الوطنية، الحقيقية غير الموسمية أو الشعاراتية، من خلال ردة الفعل الشعبية الأردنية العفوية الأصيلة، الزاخرة بالمشاعر الصادقة المخلصة المندّدة بالخيانة، والمحتفلة بالبطولة، والمؤيدة للحق الفلسطيني المشروع بالحرية والعدالة التي أشعلها، قبل أيام، ارتقاء الفتى البطل عمر أبو ليلى شهيداً وعريساً وربيعاً واعداً متجدّداً، مثل أدونيس، معشوق عشتار مانحة الحياة في الأسطورة العتيقة. 
وقد جاءت الهبة الشعبية دليلاً صارخاً دامغاً على تورط الأردني حتى النخاع بقضية فلسطين، وطناً ومهوى أفئدة، بخلاف ما ورد في المعاهدات والاتفاقات الرسمية التي رفضها المجموع، وهي التي لا تبدّل من الحقائق شيئاً. وتؤكد على الحس الوطني العالي، العصي على كل محاولات التطبيع مع العدو القاتل، والغاصب والمجرم والجبان. وحتى لو خرجت أصوات نشاز مشبوهة الهوى من هنا وهناك، تروّج فكراً عدمياً انهزامياً متواطئاً، فإن هدير المجموع الغاضب، والمنتصر للحق والحرية كفيل بإخراسها، وكشف مدى بشاعتها، وهي تروج استسلاماً مهيناً للطغيان الغاشم الذي فتك بأحلام شعوبٍ تاقت إلى الحرية والعدالة والحق الذي غابت شمسه ولكن الى حين... هكذا علمنا التاريخ دروسه البليغة، وتبقى الجريمة الكاملة مجرد خرافةٍ غير قابلة للتحقق، كما يستنتج المتتبع لردة فعل للشارع الأردني أن أحلام العدو بعلاقة جوار طبيعية أمر مستحيل، وما استقر في الوجدان من رفضٍ راسخٍ للوحش الهجين الغادر، حتى لو ارتدى ثوب حملٍ، بمثابة إعلان دائمٍ لفلسطين عربية حرة باقية، غير قابل للزوال، كما يأمل العدو المتربص، وهو يلتفت حوله مذعوراً يائساً، ساعياً إلى حلفاء أثبتت الأيام أنهم من ورق غير مقوّى.

دلالات

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.