هل من مصطفى بوشاشي للسوريين؟

هل من مصطفى بوشاشي للسوريين؟

24 مارس 2019
+ الخط -
كتبت قبل فترة أن المعارضة السورية تفتقد لرمزٍ مثل هوشيه مينه الفيتنامي (1890 ـ 1969)، الذي قارع المحتلين الأميركيين عسكرياً وسياسياً، واستطاع أن يجذب إليه كل الأطراف المشاركة في قتالهم. واليوم، يُقدّم الحَراك الاحتجاجي السلمي في الجزائر للعرب وللعالم دروساً عديدة في الوعي، وفي السلمية، وفي لفظ الاصطفاف الضيّق الأفق، وفي التنظيم، وفي الإصرار، وفي وضوح الموقف والابتعاد عن التذبذب، وفي أمور أخرى كثيرة تُعيد الأمل للشارع العربي بأن ربيعه مستمر، وبأن من ظنّ، عبر الثورات المضادّة والانقلابات العسكرية، والتراجع المُحبط عن الإصلاحات، بأنه استطاع دفنه، فها هو قد عاد إليه وإلينا كطائر الفينيق.
مؤكّد أن التفاؤل، وعن حق، ليس خبزاً يومياً في هذه المنطقة. في المقابل، يحق لمجموعة بشرية عانت عبر قرون من الاحتلالات والاضطهادات، ومن الفساد المؤسسي، ومن الاستبداد المتشبث بعروق حياتها وتعبيرها، يحقّ لها أن تشعر بشيء من التفاؤل الحذر، وهي ترى أمامها ملايين الجزائريات والجزائريين، وهم يجوبون شوارع مدن الجزائر، كبيرها وصغيرها. وفي الوقت نفسه، ترتفع لهجة الحذر عند سماع تصريحات بعض المسؤولين الدوليين، كوزير الخارجية الروسي لافروف عندما اختتم لقاءه مع ممثل النظام الجزائري المرفوض شعبياً، إن "روسيا قلقة من الاحتجاجات في الجزائر، وتراها محاولة لزعزعة استقرار البلاد".
في هذا التصريح حمولة بالغة الخطورة وتستوجب الانتباه والحذر، وخصوصاً أنه من دولة كروسيا المتطلعة إلى تعزيز نفوذها سياسياً، وحتى عسكرياً، في منطقة البحر الأبيض المتوسط، لا من دولة أوروبية أثبتت مجريات الربيع العربي أنها لا "تُقدِّم ولا تؤَخّر"، إن صرّحت، أو 
إن صمتت عن التصريح. كما أن هذا التصريح أتى فور انتهاء اجتماع للوزير الروسي مع وزير خارجية المؤسسة الحاكمة في الجزائر، التي يثور ضدّها الشعب سلمياً منذ الأسبوع الأخير من فبراير/ شباط الماضي.
الشعب في الشارع يُطالب بالتغيير وباحترام إرادته، وبالتخلّص من عصابات الفساد، والوزير في موسكو سائلاً دعمها. وفي هذه الخطوة مؤشّر خطير على تعنّت الحكّام أمام مطالب شعوبهم، ولجوئهم إلى الأجنبي لحماية مصالحهم.
من جهتها، فرنسا التي احتلت الجزائر عقوداً (1830 ـ 1962)، تغيب عن السمع وعن البصر في التعليق الرسمي على الملف الجزائري الملتهب. مع بعض التصريحات "الخجولة" في دعم الحراك الشعبي والدمقرطة في الجزائر، الصادرة عن بعض النواب الممثلين للأكثرية الحاكمة، عبر وسائل التواصل لا في بيانات رسمية، يُحاول الإليزيه تمرير الرسائل إلى الحراك الشعبي. ولكن هل من مستمع؟ على العكس، وعن وعي رفيع المستوى يرفض الجزائريون أي تدخلٍ في شأنهم الداخلي من دول أجنبية، ربما لا يسمح تاريخ تجربتها معهم أن تكون صاحبة قولٍ في ما يجري في جنباتهم. وعلى الرغم من أن هذه الحساسية من التدخل الخارجي ليست جديدة على الجزائريين، إلى درجةٍ أنها دفعت ببعض نخبهم في ماضٍ قريبٍ إلى رفضٍ وصل إلى حد الإدانة، التضامن مع ربيع الآخرين، بحجة وجود مثل هذا التدخل، إلا أن الرفض القائم حالياً، الذي يجري التعبير عنه في مداخلات الوجوه البارزة للحراك، كما يتم التعبير عنه بصراحةٍ وبعفويةٍ في الشعارات المكتوبة والمرفوعة في التظاهرات، هو وعيٌ عميقٌ غاب عن كثيرين ممن قادوا، أو تصدّروا الواجهة، أو أنهم استولوا على قيادة الحراك الثوري في الدول العربية التي عاشته، وخصوصاً في 
سورية.
غاب أيضاً عن السوريين دورٌ فاعلٌ للنخب الواعية، التي تُؤثِرُ الشأن العام على القناعات الأيديولوجية الضيقة، أو عن الأمراض النفسية التي تمخّض عنها أداءٌ سياسي، وصل إلى حدّ الكارثة في بعض المراحل. ولمراعاة الموضوعية وتجنب لطم الذات، فما عرفته الجزائر في السنوات الأخيرة من هوامش تعبير مهمةٍ في المجالات، الإعلامي والنقابي والحزبي، غاب عن السوريين طوال عقود الاستبداد، ليخرجوا من الظلمة الحالكة فوراً إلى نورٍ ساطع لبدايات مسار الحرية، فلا صحافة عرفوا مذاقها منذ 1963، ولا نقابات انضموا إليها باختيارهم، عبّرت عن تطلعاتهم وحتى مصالحهم، إنما كانت ملحقات أمنية خضعوا لها، ولابتزازها المالي والسياسي، ولا أحزاب سياسية إلا المدجّن منها في "جبهة وطنية تقدمية" صاغت انصياعهم إلى مقرّرات الفرع الأمني الحاكم.
المحامي مصطفى بوشاشي، الذي عرفته قاعات المحاكم واحداً من أشدّ المدافعين عن حقوق الإنسان، مهما اختلف هذا الإنسان في قناعاته السياسية والدينية عنه، والذي عرفه البرلمان الجزائري نائباً لفترة وجيزة، قبل أن يصدح تحت قبّته، بصوت الحق، ويستقيل احتجاجاً على تسيير أمور الدولة، يعود اليوم، وهو الذي لم يصمت البتّة، إلى واجهة التعبير الوجداني عن الأحداث. وفي حديثٍ أخير له، يُعلّق على الطلب منه أن يكون الناطق باسم الحراك قائلاً: "هذا الحراك الشعبي ليس بحاجة إلى أبوية، جيلي ناضل ولكنه فشل، أولادنا أعطونا درساً وهم واعون. ليسوا بحاجةٍ لناطق باسمهم، أو لمن يقودهم. نحن بينهم من دون ادعاء القيام بأي دور قيادي". درسٌ يستدعي التأمل في الفهم السياسي والتواضع القيادي. فهل من مصطفى بوشاشي للسوريين؟