الحمير لا تنقرض

الحمير لا تنقرض

10 فبراير 2019
+ الخط -
يستبدّ بالأردنيين قلق دافئ هذه الأيام على حميرهم، بعدما كشفت سجلات الثروة الحيوانية عن تناقصٍ مهول في أعدادها، بما يوحي أنها غدت فعلًا على مشارف الانقراض.
كان يمكن أن يمرّ مثل هذا الإحصاء عابرًا، خصوصًا أن ظاهرة الانقراض في المجتمعات العربية، عمومًا، لم تعد تستوقف أحدًا، بعد أن غدت "الثروة البشرية العربية" ذاتها معرّضة للانقراض، وفق أحد الديناصورات الذي كان يصرّ على أن ثمّة طفرةً حدثت في سلسلة انقراض الكائنات، أدت إلى تبادل في المواقع بين فصيلة وأخرى.
ما يهمنا في موضوع الحمير الآن ذلك الفضول المهول لمعرفة أسباب تناقصها، وهو فضول يثير الفضول، حقًّا، خصوصًا أن الوظائف والخدمات ذاتها التي كان يؤدّيها هذا الكائن الجميل قد انقرضت، أو أوشكت على ذلك؛ خصوصًا أن الاهتمام لم يقتصر على العامة فقط، بل تجاوزه إلى جهاتٍ حكوميةٍ مسؤولة، بدليل أن وزارة الزراعة أعلنت أنها تبحث إنشاء بنك وراثي للحمير لحمايتها من الانقراض.
أحد التكهنات المتداولة، مثلًا، تزعم أن الحمير العربية، إجمالًا، اختارت الانقراض الطوعي، بعد أن اكتشفت أن ظاهرة "القطيع" لم تعد تقتصر عليها وحدها، فثمّة كائنات "بشرية" أخذت تُزاحمها على هذا "الامتياز" الذي حظيت به منذ فجر الحياة، فآثرت الانسحاب، وترك الساحة للمنافس.
وفي روايةٍ أخرى، ثمّة من يقول إن ثمّة حادثةً وقعت لأحد الحمير الذي "يحمل أسفارًا" فوق ظهره، وشاءت المصادفة أن يقرأ تلك الأسفار العربية الحديثة، فأصيب بصدمةٍ جعلته ينهق ملء حنجرته، ويندم على انخراطه في تلك الوظيفة الأزلية التي كان يعتقد أنها بالغة الأهمية في حينه، فقد اكتشف مبلغ التزوير الذي يكتنف الروايات الرسمية العربية التي تحيل الهزائم انتصارات، والاستبداد ضرورة، والقطريات "تنوّعا مفيدا"، و"التخلّف" تنمية، والاحتلال إغناء ثقافيا وحضاريا.
أما الرواية الثالثة فتذهب إلى أبعد من ذلك، إذ يرى منظّروها أن الحمير الموصومة، دومًا، بالغباء، أكثر ذكاءً ممن وصموها به، وتقدّم أمثلة لا حصر لها للبرهنة على وجهة نظرها، منها أن الحمير لا تعزو ثورات الربيع العربية إلى "مؤامرات خارجية"، إلا إذا كان المقصود أن المواطن العربي يتمتع بكامل حقوقه وحرياته، ولا حاجة له من ثمّ إلى ثوراتٍ لانتزاع هذه الحقوق، كما أن الحمير تعجب من غباء أنظمةٍ عربيةٍ جعلت من إيران عدو العرب الأول بدل إسرائيل، وأقامت أحلافًا عسكرية ضخمة لهذه الغاية، بذريعة "مقاومة النفوذ الإيراني"، في حين لم تكن مستعدة في يوم من الأيام لإنشاء أي حلف لتحرير فلسطين.
وثمّة رواية رابعة يتبناها كثيرون، يرد فيها أن المعضلة لا تتعلق بالانقراض، بل بالهجرة، فقد آثرت هذه الكائنات "المحمية" دوليًّا بحزمةٍ من منظمات حقوق الحيوان، أن تهاجر عن بلاد لا تعترف بمبدأ الحقوق برمتها، بما فيها "حقوق الإنسان"، فراحت تتسلل إلى جغرافياتٍ أخرى لتحظى بحقوقها المستلبة.
عمومًا، ما تزال الروايات تتعدد، كما أسلفنا، بشأن انقراض الحمير العربية، وليس الأردنية وحسب، لكن الحقيقة الثابتة أنها تنقرض، غير أن ثمّة رواية واحدة لم يأت أحدٌ على ذكرها، ليس لضعفٍ فيها، بل لأنها قيلت عرضًا، ولم يعد يكرّرها صاحبها الذي اختفى تمامًا بعد أن سردها. ولضرورات التوثيق العلمي، أجد نفسي ملزمًا بإعادة سردها، آملًا أن لا ألقى المصير ذاته:
تقول الرواية إن الحمير العربية لم تنقرض ولم تهاجر ألبتة، وإن ما يشاع عن هذه القضية تكهناتٌ باطلة لا صحة لها.. صحيحٌ أن أعدادها تناقصت ظاهريًّا، لكن، في المقابل، ثمة ازديادًا مساويًا في أعداد نظراء لها بين المسؤولين العرب.
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.