في تحوُّلات المشهد السياسي المغربي

في تحوُّلات المشهد السياسي المغربي

07 فبراير 2019
+ الخط -
تُطْرَح في المشهد السياسي المغربي اليوم أسئلة عديدة، تَهُمُّ التحولات التي ترتبط بالنظام السياسي القائم، والمشهد الحزبي بتلويناته الإيديولوجية وخطاباته المختلفة. كما ترتبط بنوعية الحضور الذي أصبحت تفيض به فضاءات التواصل الاجتماعي، حيث تشتبك يومياً مجموعة من المعطيات التي تؤشّر إلى نفور الشباب من العمل السياسي المؤسّسي، حيث يحرص المتفاعلون داخل الفضاءات المذكورة على تشخيص أعطاب الأغلبية الحكومية التي تدبِّر السياسات العامة بقيادة حزب العدالة والتنمية، وتشخيص عجز المعارضة عن تقديم بدائل لأعطاب الخيارات والبرامج التي يجري تنفيذها. وبجوار ذلك، تنتعش أشكالٌ من الفعل الاحتجاجي الجديد بلغات ومواقف مختلفة عن المألوف، لتملأ الفضاءات الرقمية بمفارقاتٍ عديدة..
لم ينتج النظام السياسي المغربي، منذ سنة 2011، ما يُؤَشِّر إلى ترسيخ قواعد المشروع الديمقراطي وآلياته، على الرغم من توفُّر بعض الشروط والمقتضيات الضرورية لذلك، ممثَّلة في التعدّدية الحزبية، وفي اتساع مجال الحريات، إضافة إلى الإسناد القانوني المتطوّر الذي رسم ملامحه الجديدة دستور 2011، ومن دون إغفال الدور المهم الذي لعبته التجارب السياسية العديدة التي عرفها المجتمع المغربي في الثلث الأخير من القرن العشرين، وساهمت في عمليات التمرُّس المتدرج بآليات الفعل والتداول الديمقراطيين.
لا يتردَّد مهتمون بالتحوُّلات السياسية والإيديولوجية في المشهد السياسي المغربي في القول 
بحصول نوعٍ من التراجع عن بعض المؤشرات الديمقراطية التي برزت ملامحها الأولى نهاية القرن الماضي مع دستور 1996، واتخذت ملامح واضحةً في بداية العهد الجديد، من خلال مبادراتٍ سياسيةٍ أطلقت في بداية العهد المذكور سنوات 1999 - 2003، واعتُبرت بمثابة مؤشراتٍ تنبئ ببعض التحولات المرتقبة في نظامنا السياسي. وأبرزها إنشاء هيئة الإنصاف والمصالحة التي نفذت مشروع العدالة الانتقاليةـ وأثمرت تحقيق نوعٍ من التصالح مع أجيالٍ من الفاعلين السياسيين. إضافة إلى تبلور خطابٍ سياسي يسلِّم أن تحديث المجتمع يشكِّل القاعدة الأساس، في مختلف أوجه الإصلاح السياسي الديمقراطي.
وضمن هذا السياق، نذكر نمط التفاعل الإيجابي الذي أبداه النظام السياسي مع مبادرة 20 فبراير/شباط 2011، التي حصلت في سياق تفاعل الشباب المغربي مع رياح الثورات العربية. على الرغم من أن هذا التفاعل لم يترتب عنه ما يساهم في تعزيز المسار الديمقراطي، حيث ما فتئ المشهد السياسي الحزبي يعاني من جملةٍ من الاختلالات، حيث تضخّمت التعدّدية الحزبية بنوعٍ من النِّسيان الإرادي، لتاريخِ شبكةٍ من الأحزاب الإدارية الموالية للنظام، وهي في أغلبها أحزابٌ ليبراليةٌ أُنْشِئَت في ثمانينيات القرن الماضي، ووظّفها لمجابهة الأحزاب الوطنية والمَدّ اليساري، ويتم توظيف بعضها اليوم لمواجهة تيارات الإسلام السياسي، وتنظيماته الدَّعَوِيَّة الموازية، الأمر الذي أعادنا، بصورةٍ تكراريةٍ، إلى مساعي النظام الرامية إلى ضبط المشهد الحزبي وترتيب حركته، فأصبحنا أمام تعدّدية تُغَيِّب ما هو جوهري في العمل السياسي الحزبي، داخل النظام السياسي الديمقراطي، أي الاستقلال وتأطير المجتمع والرفع من درجات وعيه السياسي.
يعاني المشهد الحزبي المغربي اليوم من غياب المرجعيات النظرية التي تؤسّس لبرامجه وتصوُّراته. وهو يُواجه عالماً جديداً لم تعد تنفع فيه بقايا شعارات المشروع الإصلاحي الوطني، كما رسمت ملامحه الكبرى في أدبيات حزب الاستقلال. وكما تطوّر في ستينيات القرن الماضي في أدبيات الحركة الاتحادية، فأصبحنا أمام أحزابٍ إداريةٍ متناسخةٍ بأسماء 
مختلفة، وأحزابٍ وطنيةٍ لم تعد قادرةً على تجديد أدواتها وتطويرها، لتتمكّن من تعقل التحولات الجارية في المجتمع، وتبنّي شرعيةٍ سياسيةٍ جديدة، مناسِبةٍ للشعارات الموجِّهة لعملها السياسي.
تشابهت اليوم في مشهدنا السياسي أغلب برامج الأحزاب السياسية، واختفى اليمين واليسار والوسط، كما اختفى المحافظون القدامى والجدد، واصْطَفَّ الجميع من دون مرجعيةٍ نظريةٍ محدَّدة، في وقتٍ بدا فيه أن النظام وحده يقود الحياة السياسية، بموافقة الجميع ورضاهم.. وهذا الأمر بالذات لا علاقة له بمكاسب دستور 2011، ولا بمكاسب العمل السياسي الديمقراطي في المجتمع المغربي. وقد نجد فيه تفسيراً لأشكال العزوف السياسي الذي يَدفع شبابا كثيرين إلى ترك المجال السياسي، مقابل انخراطهم في بناء مشهد احتجاجي في وسائل التواصل الاجتماعي، موازٍ للواقع الفعلي في جريانه.
يحصل هذا في زمنٍ تحول فيه اليسار إلى أحزابٍ صغيرة لم تعد قادرةً على مواكبة تحولات المجتمع والقيم في عالم متغير. وفي مقابل ذلك، تصاعد مَدُّ الإسلام السياسي، بثقافته المُخَاصِمَة لمكاسب الفكر المعاصر، فنتج عن ذلك إغراق خطابنا السياسي في شعبويةٍ مبنيةٍ على أخلاق (وثقافة) التسوُّل والبسملة والإحسان.. وغير ذلك من القيم التي لا علاقة لها بالإشكالات الكبرى المطروحة في مجتمعنا، فهل يتعلق الأمر بتحوُّلاتٍ جارفةٍ، لا أحد يعرف حدودها، أم يتعلق بمجموعةٍ من التحوّلات المعقَّدة التي أصبح فيها للمجتمع المغربي فضاؤه السياسي المؤسّسي، بنخبه ومؤسساته السياسية وتنظيماته المدنية، وعالم افتراضيّ يستوعب احتجاجات في المواقع، أي في فضاءاتٍ لا أرض ولا سماء ولا مؤسّسة تنطق باسمها؟
C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".