ليست لوجه الله

ليست لوجه الله

04 فبراير 2019
+ الخط -
باشرت الحكومة الإسرائيلية اتصالاتٍ مكثفةً بالإدارة الأميركية، لحثها على استئناف تقديم المساعدات المالية المخصصة للسلطة الفلسطينية. بعد أن قرّرت إدارة ترامب وقف تلك المساعدات التي كانت توجّه إلى الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة. برّرت تل أبيب تلك المساعي بمحاولة تجنيب الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، مأزقاً ماليا أمام الشعب الفلسطيني، ربما يُضعف قدرته على الإمساك بزمام الأمور، خصوصاً في الضفة الغربية. الأمر الذي يعني بالتبعية أن تواجه إسرائيل بشكل مباشر احتمالات التهديد الأمني، وعمليات المقاومة الفلسطينية ضد الممارسات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة.
في سياق مختلف، انتشر على وسائل التواصل الاجتماعي تسجيل مقتطع من برنامج حواري على قناة "فرانس 24" يتضمن معركة كلامية بين باحثة فرنسية ضد نائبة مصرية، وضيف آخر مؤيد بشدة لنظام الحكم في مصر. أثار الفيديو عدداً هائلا من التعليقات الساخرة من منطق النائبة المؤيدة للسيسي ومظهرها، مقارنة مع عقلية الباحثة الفرنسية الشابة كلير تالون وأسلوبها. وتركز الاهتمام على تحويل الضيفَين المصريَيْن الحوار إلى "خناقة"، واستخدام الصوت العالي والهجوم الشخصي ومقاطعة تالون للتشويش عليها.
لم يلتفت أحد ممن شاهدوا الفيديو، وسخروا منه، إلى جملة شديدة الأهمية وردت على لسان كلير تالون، في سياق تعليقها على سياسة فرنسا ودوافع تصريحات الرئيس إيمانويل ماكرون عن حقوق الإنسان في مصر، خلال زيارته القاهرة الأسبوع الماضي. أقرّت كلير بأن لفرنسا مصلحة في استقرار مصر، ثم استدركت إن فرنسيين كثيرين صاروا يعتقدون أن دعم ذلك الاستقرار لا يكون بالتركيز فقط على مبيعات السلاح للقاهرة، وغض الطرف عن الحريات وحقوق الإنسان. والسبب، وفقاً لكلير، أن الوضع الحالي في مصر "غير مستقر وأن ثورة قد تندلع في أي لحظة". وفي هذه الحالة، والكلام لا يزال بلسان الباحثة كلير تالون، "ستكون فرنسا هدفاً منطقياً لكل تيار إرهابي لمشاركتها في دعم نظام دكتاتوري".
هنا بيت القصيد، المشكلة ليست في طبيعة نظام الحكم في مصر أو ممارساته، أو أداء السلطة الفلسطينية وتوجهاتها، وإنما في المردود المتوقع على مصالح وأمن فرنسا أو غيرها من الدول المعنية. تلك هي البوصلة التي تتحدّد بها توجهات الدول الكبرى والغنية نحو الشعوب الفقيرة والمتخلفة.
قبل قرون، كان هدف الاستعمار استغلال الموارد والثروات، عبر احتلال الأرض واسترقاق البشر. وفي النصف الثاني من القرن الماضي، تحول الهدف من الاستغلال المباشر للثروات والأفراد إلى السيطرة عن بعد باستخدام أدوات اقتصادية، مثل التجارة والقروض، فيما عرف باسم التبعية أو الاستعمار الجديد. وكان الهدف التحكّم في التوجهات السياسية داخلياً وخارجياً، في ظل استقطابٍ عالميٍّ وحربٍ باردةٍ انتقلت من المستوى العالمي إلى الساحات الإقليمية.
مع بدايات الألفية الثالثة، تحول الهدف من السيطرة والتحكم والاستقطاب لمواجهة المعسكر المضاد إلى درء التهديدات المحتملة الناجمة عن أوضاع داخلية مضطربة في مناطق معينة، تعد نقاط تصدير أو عبور لخطر التطرّف والعنف وموجات الهجرة نحو الدول المتقدمة. من منطلق أن من شأن تأمين متطلبات الحياة منع احتمالات اللجوء إلى العنف أو تقليلها.
هذه هي حقيقة المساعدات الخارجية التي تقدمها الدول الكبرى، خصوصاً إلى الشرق الأوسط، حيث تنتشر التهديدات الأمنية العابرة للحدود، ممثلة في مصادر الخطر الفكري والديمغرافي، فالهدف النهائي للمساعدات ليس دعم حق الإنسان في الحرية والتعبير، أو حتى في الحياة. هذا المنطق البراغماتي، وليس المبدئي، هو الذي حرّك إسرائيل لكي تدافع عن التمويل الأميركي لأعدائها الفلسطينيين. وهو أيضاً الذي جعل فرنسا وأوروبا، والدول الغربية عموماً، تحرص دائماً على تقديم مساعدات ودعم اقتصادي للشعوب والدول التي تعاني من نزاعاتٍ داخلية أو حدودية، حتى وإن كانت لتلك الدول خلافات سياسية مع الدول الغربية ذاتها.
58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.