الصعود إلى "الصرامي"

الصعود إلى "الصرامي"

03 فبراير 2019

أحذية رماها إماراتيون بالملعب أثناء المباراة مع قطر (29/1/2019/Getty)

+ الخط -
من فرعون إلى محمد بن زايد، ما يزال الناس على دين ملوكهم، مهما حاولنا الترقيع والترتيق والترميم. وما حدث في ملعب محمد بن زايد في أبو ظبي، خير شاهدٍ على لغة "الصرامي" التي "صعدنا" إليها، بفضل حملة حكام مبجّلين. 
قلتُ "على دين ملوكهم"؛ لأن من يحكم الشعوب العربية، منذ معاوية بن أبي سفيان إلى القرن الحادي والعشرين، إما ملوك أقحاح أو ملوك مهجّنون بثوب "الرؤساء"، أما السلالة الملكية الحاكمة فلا تتوقف عن غزارة التكاثر والحكم في الحالين. وفي مثل هذه الغابات التي يحكمها الملوك من مهدهم إلى لحدهم، لا يمكن لشعوبهم إلا أن يكونوا، فعلًا، على دين ملوكهم، لأنهم يرضعون صور حكامهم وتماثيلهم قبل حليب أمهاتهم، ويحفظون خطبهم وأقوالهم التي "خلّدها التاريخ"، قبل دخولهم المدارس، ويهتفون بحياتهم حتى الرمق الأخير من حياتهم هم، وكأنها الشهادة الأخيرة التي تُنجيهم من "عذاب القبر"، كما نجّتهم سابقًا من عذاب الجلاد. هذا على خلاف الشعوب التي يحكمها رؤساء ديمقراطيون، إذ تنعكس المقولة هناك، لتصبح "الرؤساء على دين شعوبهم".
ولئن كان ذلك كذلك، فكيف يُطلب إلى محقونين بحقد ملوكهم في الإمارات أن يكونوا ذوي روح رياضية، لاسيما إذا تعلق الأمر بخصم محقود عليه منذ نحو عامين، ومحاصر حتى في بعيره وعصافيره من أن "تتسلل" إلى دول الحصار، ومدعوّ عليه في منابر الجمع وخطبها، وعلى ألسنة جهابذة الإعلام والفضائيات فيها، وعلى "تغريدات" ضاحي خلفان اليومية.. كيف يُطلب من هذا الشعب أن يحفظ حذاءه في قدميه أمام هذا الخصم الذي ظفر به أعزلَ في ملاعبه، لا سلاح بيده سوى أقدامه التي انتصر بها بالأربعة، فتفاقم الغيظ، وتناثرت "الصرامي" وزجاجات المياه على اللاعبين القطريين، مع قناعتي الذاتية، أن هذه الأحذية كانت ستُقذف في الحالين؛ لأنها وسيلة التعبير الوحيدة لدى من هم على دين ملوكهم، فمن يقذف الحذاء لا يكون همّه معاقبة الخصم، بل البرهنة على الولاء للحكام الذين تستهويهم هذه الأفعال الهمجية، وتقع في أفواههم موقع الحذاء.
على هذا الأساس، سيكون من البلاهة بمكان أن نعدّ ما جرى محض شغب ملاعب حدث في مباراة كرة قدم بين قطر والإمارات، حتى وإن عدّها أباطرة الرياضة كذلك، بل هي حصيلة مبارياتٍ موازيةٍ، أضخم وأعمق، جرت وما تزال، بين حلف متآمر على ثورات الربيع العربي، لم يحقق أيّ "هدفٍ" منذ تأسيسه قبل عامين ودولةٍ صغيرةٍ دافعت عن هذه الثورات، وأحرزت "أهدافا" عديدة في سبيلها.. بين حلفٍ حاصر غزة بأزيد مما حاصرها العدوّ، وهدم أنفاق طعامها وشرابها في سيناء، ودولة انتصرت لها وآزرتها بمشاريع الإعمار والبنى التحتية ورواتب الموظفين.. بين حلفٍ منكمشٍ على جاهليته وتخلّفه وإبادة معارضيه بالتقطيع والاغتيال ودولةٍ استطاعت أن تصبح في قلب الحدث العالمي بسياساتها وتخطيطها، وقدرتها حتى على احتضان أهمّ بطولة رياضية عالمية، المونديال في 2022.
بمثل هذا التحليل، في وسعنا أن نفهم ما دار في مباراة قطر والإمارات، وأن ندرك بالتالي كيف احتقن إعلاميّ مصري، عقب انتهاء المباراة، معلنًا، بكل صفاقة، أنه سيؤيّد منتخب اليابان على منتخب قطر في المباراة الختامية؛ فهو لن يبتعد كثيرًا، عن سلفٍ له أيام حسني مبارك، دعا إلى التبرؤ من العروبة والعودة إلى الجذور الفرعونية، إبّان العدوان الثلاثيني على العراق؛ لأنه، في الواقع، كان يتّبع دين زعيمه. وفي المقابل، يمكن أن نتفهّم أسباب المسيرات العارمة التي ملأت شوارع غزة، تحديدًا؛ لأنها رأت في النصر القطري نصرًا موازيًا لشعبٍ يتحدّى الحصار بدمه يوميًّا، ويحرز آلاف الأهداف؛ لأنه شعبٌ أبى أن يسير على دين "ملكه" في رام الله.
قلنا هي ليست محض مباراة كرة قدم، بل صراعٌ عظيمٌ في مضمار الأمة ذاتها، بين قوةٍ ناهضةٍ وأخرى تتشبث بالجاهلية تشبّث أبي جهل، وتقذف صراميها لا من أقدامها، بل من أفواهها، غير أن المستقبل لن يستقرّ إلا لمن يلعب بصمتٍ وحكمة، ولا يُضيره ما يُصيبه من أذىً ما دامت عينه معلقة بـ"الهدف" وحسب.
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.