مؤتمر وارسو.. دلالات المكان والأهداف والخلفيات

مؤتمر وارسو.. دلالات المكان والأهداف والخلفيات

18 فبراير 2019

رؤساء الوفود المشاركة في مؤتمر وارسو (14/2/2019/Getty)

+ الخط -
عُقد في العاصمة البولندية، وارسو، يومي 13 و14 شباط/ فبراير 2019، المؤتمر الوزاري لتعزيز "السلام والأمن في الشرق الأوسط"، بحضور ممثّلين عن نحو ستين دولة، وذلك بعد مرور نحو شهر على دعوةٍ أطلقها وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، في خطاب ألقاه في الجامعة الأميركية في القاهرة، لتنسيق الجهود الإقليمية والدولية لمواجهة نشاطات إيران "المزعزعة للاستقرار" في منطقة الشرق الأوسط.. وفي حين كان تمثيل دول عديدة منخفضًا في المؤتمر، كان حضور أكثر الدول العربية على مستوى وزراء الخارجية، وأوفدت إسرائيل رئيس حكومتها بنيامين نتنياهو لتمثيلها، ومثّل الولايات المتحدة الأميركية نائب الرئيس مايك بنس. وباستثناء المظاهر الاحتفالية التي عبّر عنها المسؤولون الأميركيون نتيجة تمكّنهم من جمع مسؤولين عرب إلى جانب رئيس حكومة إسرائيل، لم يخرج المؤتمر بقراراتٍ مهمّة؛ ما جعله يبدو كأن هدفه الرئيس توفير غطاء لتطبيع العلاقات بين بعض الدول العربية وإسرائيل، بذريعة مواجهة تهديد مشترك تمثّله إيران.

أهداف المؤتمر
جاء مؤتمر وارسو لتحقيق جملة من الأهداف، أهمها:
• طمأنة الحلفاء العرب على أن الولايات المتحدة تلتزم أمنهم، خصوصا في مواجهة إيران، بعد إعلان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، منتصف كانون الأول/ ديسمبر 2018، عن نيته سحب قواته من سورية وأفغانستان. وقد تسبب قرار الانسحاب من سورية في حالةٍ من الارتباك والقلق بين حلفاء واشنطن، خصوصًا في منطقة الخليج؛ إذ ساد اعتقاد قبل ذلك أن واشنطن قرّرت، في ضوء إبداء دول خليجيةٍ، على رأسها السعودية، استعدادًا لتحمّل جزء من التكاليف، الاحتفاظَ بوجودها العسكري في مناطق شمال شرق سورية، بعد انتهاء الحرب على تنظيم الدولة (داعش)، للإبقاء على تأثيرٍ أميركي ما في سورية، ومواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة، وذلك بالحيلولة دون إنشاء ممر أو "كوريدور" برّي يسمح لإيران بربط مناطق 
نفوذها في العراق وسورية وصولًا إلى لبنان. لكن ترامب عاد وقرّر سحب قواته من سورية، بعد مكالمةٍ هاتفيةٍ مع الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في 14 كانون الأول/ ديسمبر 2018؛ ما تسبّب في حالةٍ من انعدام الثقة بحقيقة الالتزام الأميركي تجاه حلفاء واشنطن العرب.
• مثّل المؤتمر الذي قدّم فكرته وأشرف على الإعداد له رئيس لجنة مراقبة نشاطات إيران في وزارة الخارجية الأميركية، السفير برايان هوك، مناسبةً لجمع مسؤولين عرب وإسرائيليين علنًا تحت عنوان مواجهة "الخطر الإيراني". ويعدّ تحقيق تقاربٍ بين العرب وإسرائيل هدفًا رئيسًا وجزءًا من جهود واشنطن لإنشاء تحالفٍ إقليمي لمواجهة إيران، أو لاستغلال التلويح بالخطر الإيراني لتنفيذ أجندات أميركية - إسرائيلية. وقد بدأ العمل عليه عبر طرح فكرة إنشاء "تحالف الشرق الأوسط الإستراتيجي"، أو ما يسمّى في الإعلام "الناتو العربي"؛ ويضمّ دول الخليج العربية إضافة إلى مصر والأردن، على أن يواكب ذلك تنسيق عربي - إسرائيلي بهذا الخصوص. وكان يُفترض أن يتمّ الإعلان عن إنشاء "تحالف الشرق الأوسط الإستراتيجي" في قمةٍ تضمّ الدول العربية الثماني إضافة إلى الولايات المتحدة، وتُعقد في واشنطن خلال تشرين الأول/ أكتوبر 2018، إلا أن ذلك لم يحدث بسبب استمرار الأزمة الخليجية وحصار قطر، وعدم رغبة الولايات المتحدة في بذل جهدٍ حقيقيٍّ لحلها، وهي المستفيد الأكبر منها. وهكذا قاد الفشل الأميركي في جمع الحلفاء العرب إلى توسيع دائرة المشاركة بالدعوة إلى عقد مؤتمر وارسو..
• تهدف الولايات المتحدة من خلال عقد هذا المؤتمر إلى إنشاء تحالفٍ دوليٍّ واسع للضغط على إيران، ودفعها إلى القبول بشروط واشنطن. وتتجه الولايات المتحدة، منذ قرّرت الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران في أيار/ مايو 2018، إلى تطبيق أقصى قدرٍ من الضغوط على طهران، لدفعها إلى التفاوض على اتفاقٍ جديدٍ يحقق ثلاثة شروط رئيسة هي: منع إيران بصورة نهائية من تطوير برنامج نووي، ووقف برنامج إيران الصاروخي، ومعالجة نفوذ إيران الإقليمي والعمل على احتوائه. وكانت الولايات المتحدة فرضت، منذ انسحابها من الاتفاق النووي، حزمتين من العقوبات ضد طهران: الأولى بدأ تنفيذها في آب/ أغسطس 2018؛ والثانية، وهي الأشد، تمّ فرضها في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام نفسه، وتناولت قطاع النفط والمصارف الإيرانية..

لماذا وارسو؟
يعود اختيار الولايات المتحدة للعاصمة البولندية وارسو، لعقد مؤتمر هدفه الرئيس مواجهة إيران، إلى جملة من الأسباب، أهمها:
• أن واشنطن باختيارها وارسو ترسم خطوطًا جديدةً لتقسيم القارة الأوروبية بين حلفاء جدد تابعين لها، يتماهون مع سياساتها الإقليمية والدولية، وحلفاء قدامى لديهم سياسات أكثر استقلالًا عنها في غرب القارة الأوروبية. ومنذ انتهاء الحرب الباردة، ازدادت ثقة واشنطن بدول أوروبا الشرقية التي انضمّت إلى منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) بعد انهيار الكتلة الشيوعية، ولا سيما بولندا وجمهورية التشيك اللتين نصبت فيهما واشنطن أجزاءً مما يسمّى الدرع
الصاروخية، لمواجهة ما تزعم واشنطن إنه خطر الصواريخ الإيرانية على القارة الأوروبية.
• يدلّ اختيار وارسو مكانًا لعقد المؤتمر على مدى ارتهان بولندا للسياسة الأميركية، بعد أن باتت تعتمد كليًّا عليها في الدفاع عن نفسها في مواجهة ما تعتبرها تهديداتٍ روسيةً لأمنها. وهي من ثم تجد نفسها منحازةً إلى واشنطن في مواقفها، حتى لو كانت تتعارض مع السياسات التي يتبنّاها الاتحاد الأوروبي؛ وبولندا عضو فيه. وهذا يعني أيضًا أن واشنطن باتت تعتمد أكثر على بولندا في تأدية أدوار، سواء في منطقة الشرق الأوسط أو في القارة الأوروبية. لذلك يعدّ المؤتمر بمنزلة فرصةٍ لبولندا والولايات المتحدة لتعزيز شراكتهما الإستراتيجية؛ إذ تُضاعف الأولى جهودها من أجل استضافة قاعدة أميركية على الأراضِي البولندية. وكان لافتًا أن البلدين وقّعا، على هامش قمة وارسو، على عقدٍ لشراء عشرين قاذفة صواريخ بقيمة 414 مليون دولار، تسلّمها الولايات المتحدة إلى بولندا بحلول عام 2023.
• في ظل عدم وجود حماسة أوروبية شديدة لعقد مؤتمرٍ مخصصٍّ لمواجهة إيران، ظهرت وارسو على أنها الخيار الأمثل؛ بوجود حكومةٍ يرأسها حزب القانون والعدالة، وهو حزب يمينيٌّ ذو ميولٍ أطلسيةٍ، ولديه نظرة متشكّكة حيال الاتحاد الأوروبي، علاوة على أنه يتوافق مع السياسات اليمينية والشعبوبة التي ينتهجها ترامب. وقد مثّلت استضافة المؤتمر فرصةً لحكومة اليمين المحافظ في بولندا لتعزيز العلاقات مع واشنطن، في وقتٍ تواجه فيه عزلةً متزايدة داخل الاتحاد الأوروبي، وسط نزاعٍ حول التزام الحكومة معايير سيادة القانون.

سؤال الحشد والتمثيل
أدى فشل الولايات المتحدة في حشد تأييد كبير، خصوصا بين حلفائها الأوروبيين، لمؤتمر تحت عنوان "مواجهة إيران"، إلى توسيع عدد من القضايا التي يعالجها؛ لتشمل عملية السلام الإسرائيلية - الفلسطينية، والأزمات الإنسانية في سورية واليمن، والأمن السيبراني، والإرهاب والتطرّف، وتطوير الصواريخ وانتشارها، والتهديدات التي تستهدف التجارة البحرية، وغيرها. مع ذلك، قرّرت دول أوروبية عديدة خفض مستوى تمثيلها في المؤتمر، في حين قاطعته 
المفوضية العليا للشؤون الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي، فيديريكا موغريني، متذرعةً بمشاركتها في مؤتمر قمة الاتحاد الأفريقي في أديس أبابا. ويتمسّك الاتحاد الأوروبي بالاتفاق النووي الإيراني، خصوصا الدول الأطراف فيه، وهي فرنسا وبريطانيا وألمانيا، والتي تشجع إيران على الاستمرار فيه. وقد ذهبت هذه الدول أبعد من ذلك، عندما اتفقت على إنشاء آليةٍ مصرفيةٍ خاصة، للالتفاف على العقوبات الأميركية على إيران، والاستمرار في التبادل التجاري معها، خصوصا في الجوانب ذات البعد الإنساني. وقد برّرت بريطانيا إيفاد وزير خارجيتها إلى المؤتمر بأن هدفه تركيز الضوء على الحرب في اليمن التي ترى بريطانيا أنها معنيةٌ بها على نحو مباشر.
وقد برز الخلاف الأوروبي - الأميركي واضحًا حول إيران في المؤتمر، في الكلمة الافتتاحية التي ألقاها نائب الرئيس الأميركي، مايك بنس؛ فقد طلب من الحلفاء الأوروبيين الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، ودان مبادرةً جديدةً من فرنسا وبريطانيا تسمح لشركات أوروبية بمواصلة العمل في إيران، على الرغم من فرض العقوبات الأميركية مجدّدًا على طهران. وقال "إنها خطوة غير حكيمة ستقوّي إيران وتضعف الاتحاد الأوروبي، وتبعد المسافة أكثر بين أوروبا والولايات المتحدة".

تحالف عربي - إسرائيلي في مواجهة إيران!
لم تنتج من المؤتمر أي سياساتٍ جديدةٍ ضد إيران، وتحوّل إلى محاولةٍ لرفع الحرج عن الأطراف العربية الساعية إلى التطبيع مع إسرائيل، كما تحوّل إلى مدخلٍ يسمح باستمرار العمل على إنشاء "تحالفٍ" عربي - إسرائيلي بحجة مواجهة إيران، ففي حين تستعد الولايات المتحدة للانسحاب من سورية، يُتوقع أن تقود إسرائيل جهود مواجهة إيران في المنطقة، خصوصا في سورية؛ وهذا يتطلب، بحسب واشنطن، أن يقبل العرب بتمرير تسويةٍ للقضية الفلسطينية من دون الفلسطينيين، ووفق الرؤية الإسرائيلية التي يسعى إلى ترويجها صهر الرئيس الأميركي ومبعوثه إلى الشرق الأوسط، جاريد كوشنر، تحت عنوان "صفقة القرن". وهذا يعني أن تستقر المعادلة على مساعدة إسرائيل العرب على مواجهة إيران، في مقابل قبولهم بتصفية القضية 
الفلسطينية. وكانت إدارة ترامب شرعت أصلًا في تنفيذ هذه الرؤية، من دون مقاومةٍ عربيةٍ تُذكر، لمّا اعترفت بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال، ونقلت سفارتها إليها في أيار/ مايو 2018، ثم ضغطت على وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) بوقف التمويل عنها لإعادة تعريف اللاجئ؛ بحيث يتمّ استبعاد ملايين الفلسطينيين من هذه الفئة بما يمهّد لتصفية حق العودة. بينما تستمر إسرائيل في نشاطاتها الاستيطانية وضمّ الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية، لفرض أمرٍ واقع في نهاية المطاف. وتتوقع إدارة الرئيس ترامب من الدول العربية أن تساعدها في الضغط على الفلسطينيين الذين يرفضون حتى الآن أي حديثٍ بشأن ما تسمّى صفقة القرن، للقبول بالمقترحات التي يتوقع أن يعلن عنها كوشنر بعد الانتخابات التشريعية الإسرائيلية المقرّرة في 9 نيسان/ أبريل 2019.

خاتمة
لم يخرج مؤتمر وارسو الذي كان يفترض أن يكون هدفه الأساسي مواجهة إيران بمقرّراتٍ مهمّةٍ بسبب الانقسام بين الولايات المتحدة التي انسحبت من الاتفاق والدول الموقعة على الاتفاق النووي وأبدت تمسكًا به (بريطانيا، وفرنسا، وروسيا، والصين، وألمانيا) ورفض بعضُها حضور المؤتمر، فكأن هدفه الأساسي هو فتح الباب أمام التطبيع العلني بين إسرائيل والدول العربية كما بدا خلال المؤتمر.
لن يُكتب النجاح لمحاولات الولايات المتحدة إيجاد رابطٍ بين مواجهة إيران وتصفية القضية الفلسطينية؛ بحيث تضغط الدول العربية على الفلسطينيين للقبول بتسويةٍ وفق الرؤية الإسرائيلية في مقابل تعاون عربي - إسرائيلي لمواجهة إيران. وذلك ليس فقط لأن إسرائيل لن تُحارب إيران نيابةً عن العرب، بل بسبب عدم قبول أي طرف فلسطيني يحظى بأي قدرٍ من الشرعية بتصفية القضية الفلسطينية كما تريد إسرائيل والولايات المتحدة. ولولا عدم جواز الاستهانة باندفاع دولٍ خليجيةٍ للتطبيع مع إسرائيل وعواقبه، لكان مؤتمر وارسو تجمعًا احتفاليًا آخر انتهى بانفضاض المدعوين.