إدارة بايدن ومعضلة "اليوم التالي" للحرب على غزّة

إدارة بايدن ومعضلة "اليوم التالي" للحرب الإسرائيلية على غزّة

23 يناير 2024

الرئيس الأميركي بايدن ورئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو في تل أبيب (18/10/2023/الأناضول)

+ الخط -

تجهد إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، في وضع سيناريوهات المرحلة التي تصفها بـ "اليوم التالي" بعد انتهاء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة. وعلى الرغم من اتفاق هذه الإدارة مع حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، على هدف القضاء على القوة العسكرية لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وقدرتها على حكم غزّة، فإنهما تختلفان في ما سيكون عليه حال القطاع بعد ذلك، ومستقبل الدولة الفلسطينية المفترضة؛ ما أدّى إلى بروز التوتر بين الطرفين إلى العلن.

التصوّر الأميركي "للحلّ"

في ظل صمود المقاومة الفلسطينية وأدائها الفعّال على الأرض، بعد أكثر من ثلاثة أشهر من بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة، واستمرار إسرائيل في استهداف المدنيين بوحشية، وتحويل القطاع إلى مكانٍ غير صالح للحياة، بدأت إدارة بايدن في البحث عن حلولٍ سياسيةٍ لمواجهة ضغوط محلية ودولية متزايدة لوقف الحرب وإيجاد حلّ للصراع. وتنطلق الرؤية الأميركية من أن إسرائيل لا تملك حلّاً عسكريًا للتعامل مع حركة حماس، أو مقاربة واقعية لما يمكن أن يكون عليه الوضع في غزّة بعد الحرب، وعدم إيجاد صيغة تضمن حقوق الفلسطينيين، يعني أن ما حصل في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 سيتكرّر بطريقةٍ ما، في مرحلةٍ ما. 

تقوم "رؤية الحل" التي يتولى منسق مجلس الأمن القومي الأميركي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بريت ماكغورك، مهمّة صياغتها وتسويقها، على موافقة المملكة العربية السعودية على توقيع اتفاقية سلام مع إسرائيل وتطبيع العلاقات معها، والمشاركة مع دول خليجية أخرى في المساهمة في إعادة إعمار قطاع غزّة، في مقابل موافقة إسرائيل على وقف إطلاق النار، والسماح لحكومة فلسطينية جديدة بإدارة الضفة الغربية والقطاع معًا، مع احتفاظ إسرائيل بـ "نفوذ أمني محدود" فيهما، وإتاحة أفق سياسي لتشكيل دولة فلسطينية. ويرى ماكغورك أن موافقة إسرائيل على هذه الخطّة ستمنح القيادة السعودية القدرة على تسويق اتفاق التطبيع أمام شعبها، الذي تعارض الغالبية العظمى منه ذلك، وفق استطلاع للرأي أجراه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، على أساس أن هذا الاتفاق يساعد الفلسطينيين. وتقترح الخطة جدولًا زمنيًا لذلك مدته 90 يومًا، يبدأ من لحظة تتفق عليها الرياض وتل أبيب مع انتهاء القتال النشط في قطاع غزة. ولا تخلو الخطّة من حساباتٍ انتخابية لبايدن؛ إذ تشير إلى اتفاق أولي بين السعودية وإسرائيل بعنوان "ميثاق القدس – جدة"، وتقترح أن يسافر بايدن إلى المنطقة بعدها للإشراف على توقيع الاتفاق المشار إليه، وتوظيف ذلك في مساعيه للفوز بفترة رئاسية ثانية.

أبلغ نتنياهو واشنطن معارضته إقامة دولة فلسطينية كجزء من أي سيناريو لما بعد الحرب

ويبدو أن جولة أنتوني بلينكن أخيرا في المنطقة سعت إلى تحقيق أهداف هذه الخطّة بالدرجة الأولى، وقد أكّد هو نفسه هذا المعطى من عدّة عواصم عربية، ومن تل أبيب خلال جولته تلك. ويمكن تلمّس ملامح الاستراتيجية الأميركية "لليوم التالي" للحرب في الخطوط التالية:

(1): تطبيع سعودي – إسرائيلي مقابل وعود بدولة فلسطينية في المستقبل 

أفاد مستشار الأمن القومي الأميركي، جيك سوليفان، بأن "استراتيجية ما بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر" التي تسعى إليها إدارة بايدن تقوم على أن يكون التطبيع بين السعودية وإسرائيل "مرتبطًا بأفق سياسي للفلسطينيين". وطرح سوليفان أربعة مبادئ تصرّ عليها واشنطن بشأن تسوية اليوم التالي للحرب، وهي: عدم استخدام غزّة مطلقًا لشنّ هجماتٍ جديدة على إسرائيل؛ وأن يكون السلام إقليميًا، بمعنى أن يكون بين الدول العربية في المنطقة وإسرائيل؛ وأن يقود ذلك إلى دولة فلسطينية؛ وأن تكون هناك ضماناتٌ أمنيةٌ لإسرائيل. ويُجادل مسؤولون أميركيون بأن يزور بلينكن السعودية والإمارات والأردن وقطر قبل توجّهه إلى إسرائيل، في جولته الأخيرة في المنطقة، كان الهدف منه الحصول على دعم عربي للخطة، وتقديم مقترح عربي موحّد لنتنياهو لسيناريو ما بعد الحرب. وكان بلينكن صرّح، في تل أبيب في 9 كانون الثاني/ يناير 2024، "إذا كانت إسرائيل راغبة في أن يتخذ جيرانها العرب القرارات الصعبة اللازمة للمساعدة في ضمان أمنها الدائم، فسوف يكون لزامًا على زعماء إسرائيل أنفسهم أن يتخذوا قرارات صعبة". وأضاف أن الشركاء الذين التقاهم "في هذه الرحلة قالوا إنهم مستعدون لدعم حل دائم ينهي "دائرة العنف" المستمرّة منذ فترة طويلة و"يضمن أمن إسرائيل". لكنهم أكّدوا أن هذا لا يمكن أن يتحقّق إلا من خلال نهج إقليمي يتضمن مسارًا يؤدي إلى إقامة دولة فلسطينية". وفي القاهرة، اعتبر بلينكن أن بناء التكامل في المنطقة، الذي تكون إسرائيل جزءًا منه، يمثل "أفضل طريقة لعزل إيران وتهميشها هي والوكلاء الذين يسببون الكثير من المتاعب لنا وللجميع تقريبًا في المنطقة".

(2): إصلاح دور السلطة الفلسطينية وتعزيزه

يشير إصلاح السلطة الفلسطينية، وفقًا لخطة ماكغورك، إلى تصعيد "قيادة متجدّدة، بحيث يكون هناك شخص آخر غير (الرئيس الفلسطيني) محمود عبّاس ولكنه مشابه جدًّا جدًّا له" لناحية العلاقات مع إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية. وهذا يعني أن عملية "هندسة" السلطة الفلسطينية ستكون شبيهة بما جرى عامَي 2002 و2003، وأدت إلى إضعاف سلطة الرئيس الراحل، ياسر عرفات، وانتهت بوصول عباس نفسه إلى رئاستها. وتهدف إدارة بايدن من وراء ذلك إلى تعزيز قوة السلطة الفلسطينية التي تعمل على نحوٍ وثيق مع إسرائيل والولايات المتحدة للسيطرة على جزء من الضفة الغربية، وبما يسمح بإقناع إسرائيل بقدرة هذه السلطة "المتجددة" على تحمّل مسؤولية الحكم في قطاع غزة بعد انتهاء الحرب، ومن ثمّ توحيده مع ذلك الجزء من الضفة الغربية تحت قيادة فلسطينية. ووفقًا لإدارة بايدن، فقد أبدى زعماء عرب استعدادهم للانخراط في جهود إصلاح السلطة الفلسطينية وتطويرها، من أجل ضمّ وجوه جديدة وأكثر شبابًا إليها. في المقابل، تطالب إدارة بايدن إسرائيل بأن "تتوقف عن اتخاذ خطوات من شأنها أن تقوض قدرة الفلسطينيين على حكم أنفسهم بفاعلية". ويضاف إلى ذلك ضرورة وقف "عنف المستوطنين المتطرفين الذي يمارَس بلا عقاب، وتوسيع المستوطنات، وعمليات الهدم، والإخلاء"، فضلًا عن إعطاء السلطة أموال الضرائب الفلسطينية لكي تتمكن من دفع رواتب موظفيها، وتحديدًا رجال الأمن، وهو ما أقرّه مجلس الوزراء الإسرائيلي المصغر في 21 كانون الثاني/ يناير 2024.

تحدّيات تواجه الخطّة الأميركية

كان ماكغورك (سوية مع آموس هوكشتاين) يعمل على ملف التطبيع بين السعودية وإسرائيل، حين وقعت عملية 7 تشرين الأول/ أكتوبر، واندلعت الحرب. ومن الواضح أن كل ما يهمه هو العودة إلى مسار التطبيع، وليس التعامل مع القضية الفلسطينية التي حاولوا تهميشها. وتواجه خطة ماكغورك لليوم التالي للحرب على غزة تحديات عديدة أبرزها:

(1) غياب الإجماع داخل إدارة بايدن 

على الرغم من تبنّي إدارة بايدن رسميًا لمقاربة ماكغورك التي يرى فيها بلينكن "فرصة عميقة للأقلمة [...] في الشرق الأوسط الكبير"، بمعنى جعل حلِّ القضية الفلسطينية نتيجة مترتبة على تطبيع عربي – إسرائيلي، لا منطلقًا له، فإن هذه المقاربة لا تحظى بإجماع داخل الإدارة. ويرى بعض المسؤولين الأميركيين أن منطق الصفقات الإقليمية التي تبنّتها إدارتا ترامب وبايدن إلى الآن غذّى الهواجس والغضب الفلسطيني، وأن عملية "طوفان الأقصى" كانت تعبيرًا عن ذلك. ويشكك هؤلاء في أن تقبل قيادة السلطة الفلسطينية بعملية إعادة "هندستها"، حتى لو حظيت هذه المساعي بدعم بعض الدول العربية، ويحذّرون من أن الإحباط الفلسطيني من هذه المقاربة قد يقود إلى مزيد من العنف. ويعزز هذا الاحتمال افتقاد بايدن أي صدقية فلسطينيًا منذ ما قبل الحرب؛ وذلك لعدم تراجعه عن بعض القرارات التي اتخذها ترامب، مثل الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأميركية إليها، وإغلاق البعثة الدبلوماسية الفلسطينية في واشنطن.

(2): الرفض الإسرائيلي

يمثل الموقف الإسرائيلي التحدي الأكبر الذي يواجه خطة ماكغورك؛ إذ ينحو نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرّفة إلى رفض أكثر الأفكار الواردة فيها، بما فيها مقترح إنشاء دولة فلسطينية وسيطرة السلطة الفلسطينية على قطاع غزّة. وترفض حكومة نتنياهو حتى الآن التجاوب مع المطالب الأميركية المتصلة بكبح جماح المستوطنين المتطرفين في الضفّة الغربية، والانتقال إلى العمليات العسكرية الأقل كثافة في قطاع غزة بهدف تقليل حجم الخسائر بين المدنيين الفلسطينيين، والسماح بدخول المزيد من المساعدات الإنسانية إلى سكانه. وجدت الإدارة الأميركية تعنّتًا وصدًّا من الحكومة الإسرائيلية، في أي مسألة طلبتها منها، إلى الحد الذي اضطر بايدن إلى أن يقطع مكالمة هاتفية مع نتنياهو في 23 كانون الأول / ديسمبر 2023. ومع ذلك، استمر نتنياهو في تجاهل المطالب الأميركية ما دامت لا تتعلق بالدعم العسكري والسياسي الذي تقدمه إدارة بايدن لإسرائيل، فقد أبلغ واشنطن معارضته إقامة دولة فلسطينية كجزء من أي سيناريو لما بعد الحرب. وقال إنه في "أي ترتيب مستقبلي […] تحتاج إسرائيل إلى السيطرة الأمنية على جميع الأراضي الواقعة غرب الأردن"، مشددًا على أنه "يجب أن يكون رئيس الوزراء قادرًا على قول لا لأصدقائنا". وعاد نتنياهو ليؤكّد هذا الموقف بعد مكالمة هاتفية مع الرئيس بايدن (19 كانون الثاني/ يناير 2024)، وليناقض كلام الرئيس الأميركي الذي صرّح بعدها "بأن نتنياهو لم يبدِ خلال المكالمة معارضة لحلّ الدولتين". 

إن بايدن ومسؤولي إدارته "يتوسلون إلى حكومة نتنياهو" للتجاوب مع رؤيتهم، لكنهم يتلقّون الصدّ في كل مرة

ويتهم مسؤولون في إدارة بايدن وفي الحزب الديمقراطي، نتنياهو بأنه يضع مصالحه السياسية فوق مصالح إسرائيل الاستراتيجية، بل فوق مصالح الولايات المتحدة ومصالح بايدن الذي غامر بتقديم دعم أميركي غير مسبوق له بعد عملية طوفان الأقصى، على الرغم من احتمالات أن يؤثر ذلك في فرص إعادة انتخابه رئيسًا، وأن نتنياهو "أكثر استعدادًا للإصغاء" إلى الوزراء المتطرفين في حكومته، وتحديدًا إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريش، منه إلى ما يقوله رئيس الولايات المتحدة. لكن الأمور لا تقف عند نتنياهو في تحدّي واشنطن في مسائل، من قبيل الدولة الفلسطينية ومستقبل السيطرة الأمنية على قطاع غزة، بل إن قيادة الجيش الإسرائيلي أيضًا تماطل في الاستجابة للمطلب الأميركي الخاص بتقليص العمليات العسكرية في القطاع وتقليل الخسائر بين المدنيين، وكذلك يفعل وزراء في حكومة نتنياهو تعدّهم واشنطن شركاء ويمكنها العمل معهم، مثل وزير الدفاع، يوآف غالانت، الذي قدّم تصورًا لوضع القطاع ما بعد الحرب، قبل زيارة بلينكن الأخيرة إلى تل أبيب، تضمّن مطلبًا أميركيًا لناحية عدم القيام بتهجير قسري للفلسطينيين من القطاع، لكنه تجاوز بقية المطالب الأخرى. ويقوم هذا المقترح على أن إسرائيل لن تحكم المدنيين في غزّة، بل ستتولى مسؤولية ذلك "جهات فلسطينية". وهذه الجهات الفلسطينية ليست السلطة الفلسطينية في صيغتها الحالية، ولا "المتجددة" بحسب الاقتراح الأميركي، بل هي "لجان مدنية" محلية غير معادية لإسرائيل (مثل العشائر!)، تكون صيغتها أقرب إلى "روابط القرى" التي حاولت إسرائيل فرضها في الضفة الغربية في ثمانينيات القرن العشرين. وتنصّ خطة غالانت على أن تحتفظ إسرائيل بحق العمل الأمني والعسكري داخل القطاع، كلما كان ذلك ضروريًا. وهو ما يحاكي الواقع القائم في الضفة الغربية. ثمّ إن إسرائيل ستستمر في السيطرة على حدود القطاع؛ ما يعني عمليًا استبعاد قيام دولة فلسطينية، كما تطالب واشنطن.

خاتمة

تعبّر الاستراتيجية التي تسوّق لها إدارة بايدن لمرحلة ما بعد الحرب على غزة عن رؤية عامة، لا تملك أي تصور لكيفية تنفيذها. فمن جهة، لن تستطيع على الأرجح أن تقنع بها أشدّ حكومات إسرائيل تطرفًا، خاصة أن نتنياهو الذي يكافح من أجل البقاء في منصبه صار هو نفسه رهينة النزعات الشوفينية المتطرّفة لوزراء حكومته، ومن ثمّ، فإنه لا يلقي بالًا لمصالح بايدن الذي سانده مخاطرًا بمستقبله السياسي. وكما يقول مسؤول أميركي، فإن بايدن ومسؤولي إدارته "يتوسلون إلى حكومة نتنياهو" للتجاوب مع رؤيتهم، لكنهم يتلقّون الصدّ في كل مرة. ومن جهة أخرى، لن يكون ممكنًا إقناع الشعب الفلسطيني، بعد التضحيات التي قدّمها والمقاومة الباسلة التي أبداها، بوعود "فارغة" حول إقامة دولةٍ فلسطينيةٍ مستقلّةٍ في مرحلةٍ ما في المستقبل، بل ينبغي أن يكون ثمن هذه التضحيات حقيقيًا وحاضرًا؛ وهو ما يجب أن يكون عليه الموقف العربي أيضًا.