الصدمة "النفس - سياسية" في "سبع سنين"

الصدمة "النفس - سياسية" في "سبع سنين"

18 فبراير 2019
+ الخط -
كان فيلم "في سبع سنين" الذي عرضته قناة الجزيرة في الـ27 من الشهر الفائت (يناير/ كانون الثاني) أولَ ما أحدث ضجّة إعلامية، وجدلاً حادًا على مواقع التواصل الاجتماعي، عن ظاهرة التحولات الفكرية والنفسية لدى شبابٍ عايشوا الثورة في مصر، ونالهم الكثير من صدمات أحداثها. ولكن "في سبع سنين" لم يكن أول من تناول هذه الظاهرة.
كان التحقيق الاستقصائي الموسّع "في الطريق من رابعة إلى سورية" في منصّة "إضاءات" أوّل مادة إعلامية تتناول بعدًا من أبعاد هذه الظاهرة، إذ أجرى محمد العناني (وهو معد فيلم "في سبع سنين") مع أسامة الصياد هذا التحقيق عن شباب مصريين من "الإخوان المسلمين" تحولوا إلى الجهاد في سورية عقب المذبحة في ميدان رابعة العدوية في القاهرة صيف 2013. ويتناول التحقيق ظاهرة شديدة الخصوصية، إذ يركز على تحوّل الشباب إلى طريق الجهاد في سورية، ويقصر العينة على شباب "الإخوان". ويعرض قصص عشرة شبابٍ نالهم ذاك التحول، واقتصر المدى الزمني للتناول على ثلاث سنوات. ثم كتبت مها عمر في موقع "ألترا صوت" عن الجانب المقابل، وهو ظاهرة فقد الإيمان خلال أربع سنوات بعد مذبحة "رابعة"، فنشرت تقريرا بعنوان "بعد أربع سنوات من فضّ رابعة: تحولات فكرية ودينية لدى شباب مصر" في 14 أغسطس/ آب 2017، وعرض أربع قصص للتحول من الإيمان 
والاهتمام بالدين إلى فقد الإيمان وعدم الاكتراث بالدين، تحت أسماء مستعارة. ثم كتب كريم أسعد مقال "المبتسرون" على منصة "إضاءات"، وسرد فيه حياة أربعة شباب عاصروا الثورة، وتحولوا على إثرها تحولاتٍ متباينةً نفسيةً وسياسيةً، ودينية ومهنية. وتركّز اثنتان من هذه القصص على تحوّلهم إلى التشكك في الأسئلة الكبرى في الدين. ليس الغريب أن يكون محمود العناني أحد هؤلاء "المبتسرون"، وهو في الوقت نفسه، معدّ تحقيق "في الطريق من رابعة إلى سورية"، ومشارك في إعداد الفيلم الوثائقي "في سبع سنين." ثم تناول تحقيق في "العربي الجديد" ظاهرة تحول الشباب المفرج عنهم بعد المرور بفترة تعذيب واعتقال إلى تبنّي عمليات انتحارية في مصر ضمن خلايا تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الصغيرة في مصر. ونشر التحقيق في 19 مارس/ آذار 2018، وتناول قصص خمسة منتحرين، بناء على اطلاع على تحقيقات القضايا، وعلى مقابلات موسعةٍ مع ذويهم وأصدقائهم، وقد نفّذوا عمليات تفجير الكنيسة البطرسية في ديسمبر/ كانون الأول 2016، وكنيستي طنطا والإسكندرية في إبريل/ نيسان 2017 ومحاولة تفجير معبد الكرنك، ومجموعة عرب شركس. ثمّ كان فيلم "في سبع سنين" أوّل مادّة بصرية تتناول ظاهرة التحولات الفكرية والدينية والنفسية للشباب في خلال سبع سنين من الثورة.
تلقي الأعمال الخمسة الضوء على ما لا يقل عن عشرين قصة من قصص التحول لدى الشباب، وتصل الجسر المنقطع بين "الحدث" و"المشارك في الحدث." وهذا الجسر هو "الصدمة"، أي التروما النفسية التي سبّبها الحدث السياسي، واستجابت لها كل قصة بحسبها. وهو ما أطرح تسميته هنا "الصدمة النفس - سياسية"، لأنّ الأفكار التي تتحول بعد الصدمة تؤدي إلى تأثيراتٍ نفسيةٍ متباينة، وتشكل دوافع لأفعال جديدة. والصدمة مترجمة عن كلمة "التروما" ذات الأصل اللاتيني، وتستخدم في الدراسات النفسية كذلك بهذا اللفظ نفسه، "تروما"، وهذه تعطي إحساس الوجع والألم الذي يعقب الحدث الخارجي، والأفكار الجديدة التي أحدثها.
كانت الأحداث السياسية منذ عام 2011 وحتّى 2018 المسرح العام لحكايات عشرين شابا وشابّة في هذه الأعمال الخمسة، ولكن أحداثا صغيرة توجد في هذا المسرح الكبير الممتد، وكان كل حدث صغير يشكّل تروما/ صدمةً لكل شاب أو شابة على حدة. وبالفعل، كانت الصدمة التي تشكّل تلقّي الشاب أو الشابة للحدث واستقبالهم محور هذه الأعمال الخمسة، والذي حرص منفذوه على طرح السؤال: ما الصدمة المحدّدة التي أدّت إلى مسار تحول؟
في استقصاء "في الطريق من رابعة إلى سورية" كانت الصدمة واضحةً أشدّ الوضوح، وهي مذبحة فض اعتصامي ميداني رابعة العدوية والنهضة في القاهرة، وكان التحول متشابهًا كذلك لعشرين شابّا كفروا بخطاب الديمقراطية والسلمية، واعتنقوا الأفكار الجهادية التي تبيح تبنّي العنف مقابل عنف الدولة. أمّا استقصاء "تحولات قاتلة"، فكانت الصدمة الاعتقال والتعذيب الشديد للمنتحرين الخمسة الذين كانوا كالقنابل الموقوتة، بعد فكاكهم من السجن والتعذيب، فانضموا إلى خلايا "داعش" الصغيرة، ونفذوا هذه الحوادث التي أرعبتنا في عدّة أشهر عصيبة. كانت صدمة هؤلاء قاتلة بالفعل، ولم تعبّر عن نفسها في خطابٍ تمكن قراءته وفهمه. أمّا مقالا "تحولات فكرية ودينية" و"المبتسرون" فقد أعطيا مساحة أكبر لقصص التحول التي تتشكك في الإيمان وتنكفئ على النفس، وتراوحت الصدمات ما بين مذبحة ميدان رابعة والاعتقال وما بين حدث الثورة ذاته. وجاء فيلم "في سبع سنين" ملك هذه الأعمال بحقّ، إذ سلّط الضوء على الصدمة بقدر ما سلّط الضوء على المسار الفكري والنفسي الذي أعقب هذه الصدمة.
كانت صدمة الفتاة المنتقبة، سنّة، حادثة "تحرّش جماعي" عنيفة مدفوعة بدافع كراهية الإخوان المسلمين، وهي الفتاة السلفية التي صدّقت أنّ الحجاب يحميها، فإذا هو ما يعرّضها للخطر والعنف الجسدي. وكانت الشابة "الإسلامية"، إسراء، تشارك في المظاهرات والفعاليات، وهي محمّلة بأفكارها "الإسلامية" كما وصفت نفسها، فكانت صدمتها مبكّرة جدًا في عام 2011 حين صرّح أحد قياديي الإخوان المسلمين بأنّ الشباب في أحداث شارع محمد محمود يفسدون العرس الديمقراطي. ونشأ حسن البنا، وهو ابن عوائل إخوانية، وتربّى في تنظيم الإخوان الأمّ. كان، كما يقول، يسقط له العزيز إثر العزيز من أقربائه وأصدقائه، وكانت فاجعته النهائية في فقد أخيه الأكبر الذي كان بمثابة أبيه في الصفوف الأمامية في أحداث ميدان رمسيس في 16 أغسطس/ آب 2013. بعدها، تحوّل حسن إلى "اللاأدرية." أمّا الشاب الذي كان من صنّاع الحياة فقد أدّت الثورة إلى فتح آفاق كبيرة للعمل العام من حوله؛ ثمّ رابه صمت عمرو خالد 
عن القتل في المظاهرات منذ الثورة وحتى مذبحة ميدان رابعة، حتّى امتدّ هذا الريب إلى خطابه وتشكّك فيه، فقاده ذلك إلى التوتّر، وإعادة البحث. ثمّ تأتي حكاية الشابّ المسيحي الذي أنكر وجود الله، وهو الذي تربّى في الكنيسة واهتمّ باللاهوت، واللغة القبطية، ولكن مرة أخرى يعجز هذا التكوين عن حفظ إيمانه. .. وهنا نلحظ أن الصدمات تفاوتت ما بين سقوط الرموز المتصدرة والقتل الجماعي وحوادث الكراهية.
وفي الضفة الأخرى، كيف أدّى العنف إلى التحوّل إلى العنف المضادّ؟ براء الشاب اليافع الذي كان لا يأبه للأحداث السياسية حتّى واقعة ميدان رابعة، وحين حدثت المجزرة كان يصطاف في الساحل الشمالي. ولكن حين شاهد مرئيات المذبحة صُدم، وصحا بعد غفلةٍ كما عبّر. كانت المشاهدة فقط صدمة، أمّا أحمد فكانت صدمته التي تحوّل بعدها هي أحداث ميدان رمسيس. وكانت تلك الفترة من أكثر الفترات التي ابتُلينا فيها بخطاب الكراهية. سمع أحمد هذا الكلام والسباب، فشعر باغتراب شديد . أمّا الشابّ الثالث فكانت صدمته في منتهى الوضوح. تعرّض للاعتقال والتعذيب. يحكي هذا الشاب وقائع تعذيبٍ في منتهى القسوة، ويقول إن ّتعذيبه كان خاليا من الهدف. من عذّبه لم يرد منه اعترافا، ما جعله يصل إلى أنّ تعذيبه هواية. هذا الظلم الشديد والعنف جعلا الشباب يصلون إلى نتيجة أنّ من حقّهم استخدام العنف هم كذلك. وليست من ساحةٍ تشرع هذا سوى سورية، فهاجروا إليها وانضموا إلى تنظيماتٍ جهادية متنوعة.
توضح هذه الأعمال الخمسة أنّ العنف كان حاضرًا في جميع قصص التحول، ولعب دورًا إمّا في دفع أحدهم إلى الإلحاد واللاأدرية، أو إلى عدم الاهتمام بوجود الله، فهم بشكل ما "يحتجّون على الله وينظرون إليه أنّه خذلهم". أمّا الثلاثة الآخرون فتعاملوا على المستوى البشري، وأرجعوا أخطاء ما حدث من عنف ومجازر إلى أسباب بشرية، فيلوم أحمد مثلا على الإخوان المسلمين ارتداءهم درع السلمية، ويعتبر براء أنه قد صحا بعد غفلة.
لم تكن هذه الأعمال الخمسة نهاية القول، بل بدايته في الحقيقة، بداية فتح باب الحكي والبوح بالصدمات والأوجاع في مسارات تحول الشباب والشابات الذين عايشوا الثورة وتأثروا بها وبمتتالياتها.
4FD1CF2E-2644-4CC1-8828-87204B0E3728
4FD1CF2E-2644-4CC1-8828-87204B0E3728
خديجة جعفر

كاتبة وباحثة مصرية، ماجستير في الفلسفة من الجامعة الأميركية في القاهرة.

خديجة جعفر