إثر حلمٍ مزعج

إثر حلمٍ مزعج

18 فبراير 2019

(موديلياني)

+ الخط -
صحوتُ من نومي في حالة غضبٍ شديد، إثر حلمٍ مزعج، كانت فيه صديقتي المقرّبة التي أحبها كثيرا تعد مأدبة باذخة. وحين أوشكت على وضع اللقمة الأولى في فمي، سحبت الطبق من أمامي، قائلة إنها غيرت رأيها، ولا ترغب في دعوتي، بل داهمها النعاس، وصارت ترغب في النوم. لذلك من المستحسن أن أغادر، هاتفتها قبل إعداد قهوة الصباح، والتخلص من آثار الحنق، كي أعاتبها على مقدار اللؤم الذي أبدته بحقي. جاءني صوتها حيويا طافحا بالسعادة، وهي تقول إنها في العقبة لبضعة أيام! زاد حقدي عليها، ورفضت، على الرغم من إلحاحها الشديد، إخبارها بمجريات الحلم، من باب معاقبتها بالحبس عدة أيام على قيد الفضول، ولفرط طيبتها، وربما من باب مجاراة نزقي الصباحي، اعتذرت عما قد بدر منها في حلمي، مؤكّدة أنها لم تقصد إزعاجي، ونصحتني بقراءة المعوذات.
أيقنت، وأنا أرتشف قهوتي، أنه ليس من الفطنة بمكان أن تتورّط قبل النوم بمشاهدة فيلمٍ يحكي قصة موديلياني، ذلك الفنان البوهيمي العدمي المدهش الذي كان بيكاسو يرهب جانبه. قال للمرأة التي رسمها مغمضة العينين، في بدء تعارفهما، حين عاتبته العاشقة الصغيرة على إغفال جمال عينيها: عندما أعرف روحك أكثر، سوف أرسم عينيك، أحداث حزينة مؤلمة، رافقت تفاصيل حياته منذ الطفولة، حيث مشاعر القلق والفقدان منذ اللحظة التي تم بيع أثاث منزل والديه في المزاد العلني، جرّاء تراكم الديون، لتتراكم في روحه المعذبة مشاعر ازدراء للممتلكات والمكاسب المادية، جعلته يستهتر في قيمة أعماله الفنية، ويفشل في تسويقها، ثم يغرق في الفقر والمرض، وارتكاب الحماقات التي أدّت إلى موته بشكلٍ مجّاني على باب حانة باريسية.
ولكن، ما شأني بذلك كله، ولماذا يخزّن رأسي كل مشاعر الحزن والغضب، كي يفجرها أحلاما مقيتةً، تبعث على الغضب، فكّرت أن لقراري ترك التدخين، ونجاحي في ذلك أسبوعا، علاقة ما بهذا التوتر والحزن الباهظ. نعم الجسد يحزن، حين تحرمه من أسباب دماره على ما يبدو. تجولت في "يوتيوب" بحثا عن أسرار تحكّم مادة النيكوتين بنا، لعل من الخطأ الإطلاع على كل هذه التفاصيل الطبية البائسة. اللعنة على فضولي الذي يدفعني إلى عالم "يوتيوب"، حيث القنوات تبث العجب العجاب، فيختلط الحابل والنابل في فيضان معرفي سوريالي، تتساوى فيها إمكانات الانتشار بين فيديو طريقة أم محمود الشهيرة في تنظيف الكرشة وفيديو عظيم يتضمن حوارا تلفزيونيا نادرا مع كارل يونغ. والمتلقّي حرٌّ في أن يسلك الدرب الملائم لاهتماماته، متجاوزا الكم الهائل من الهراء الذي يحتويه هذا الفضاء الملتبس، مثل الفيديو الذي تابعه أخيرا ملايين الأطهار الأنقياء حرّاس الفضيلة والشرف المتضمن مشاهد إباحية، بطلها المخرج المصري خالد يوسف، الرافض بالمصادفة البحتة (!) التعديلات الدستورية في بلاده التي تبيح بقاء الرئيس جاثما على صدر الشعب المبتلى إلى الأبد، ما كفل للجهات المعنية حرق اسم الرجل إلى ولد الولد، غير أنني، وعلى الرغم من كل تلك القبائح اليومية التي تبرّر حرق مزيد من السجائر من باب فشّة الغل، ماضية في خيار الصمود والتصدّي. وقد دعوت صديقة معروفة بكراهيتها الشديدة عادة التدخين، طلبا للدعم النفسي. وقبل أن أفاجئها بالخبر الجميل عن تغلبي على جحافل النيكوتين، عالجتني بالضربة القاضية، وهي تضع أمامها علبة سجائر بألوان زاهية، وتقول باستسلام: بشرى سارّة، صرت مدخنةً مثلكم. انصياعا لمزاج الأغلبية، لن أشعر بالغربة، ولن تنعتوني مملّة بعد الآن. معك كل الحق، يا صديقتي، ليس هناك أكثر راحةً من الالتحاق بركب القطيع مهما ضل.
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.