حفلة تطبيع عارمة

حفلة تطبيع عارمة

17 فبراير 2019
+ الخط -
هناك في وارسو، حيث اجتمع المسؤولون العرب برعاية أميركية تحت سقف واحد مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، كان العنوان العام هو "مواجهة إيران". هذا ما أرادت واشنطن أن تجعله عنواناً لهذا الحشد الدبلوماسي، لكن تحته كان هناك ما هو أكبر بكثير، وأبعد بكثير أيضاً عن إيران، سيما أن الولايات المتحدة تدرك أن أي تحرّك لن يحدث بعد هذا المؤتمر لمواجهة طهران أو مشروعها في المنطقة، في ظل الانقسام الكبير القائم بين أميركا وحلفائها الأوروبيين بشأن هذه المسألة، والذي دفع دولا أوروبية كثيرة إلى تخفيض مستوى المشاركة، حتى إن بعضها شارك بالسفراء الموجودين في بولندا.
لكن لا يهمّ. لم تكن هذه هي الغاية الأساسية من المؤتمر، فالغاية الأساسية تحققت، وها هي حفلة التطبيع قد بدأت، وعلى أعلى المستويات. لا يهم إن كان المؤتمر سيخرج بمقرّرات حقيقية لردع التمدّد الإيراني، أو مواجهة المشروع النووي، أو التصدّي للخطر الصاروخي. المهم هو صنع عدو وحيد في المنطقة، والبدء بإعادة تشكيلها وترتيب تحالفاتها وفق منظور "الشرق الأوسط الجديد" الذي تكون إسرائيل جزءاً أساسياً منه وفاعلاً فيه، وتعيش علاقات طبيعية مع "جيرانها" العرب.
وكان للولايات المتحدة فعلياً ما أرادت. لم تكتف بالكشف علانيةً عن علاقات دول خليجية مع إسرائيل، بل أدخلت أطرافاً أخرى إلى المعادلة التطبيعية، فها هو وزير الخارجية اليمني، خالد اليماني، يتودّد لرئيس الوزراء الإسرائيلي، ويقدم له مايكروفونه بعدما بدا أن المايكروفون الخاص بنتنياهو لا يعمل. وعلى الرغم من أن اليماني أشار لاحقاً إلى أن جلوسه إلى جانب نتنياهو كان خطأً، إلا أنه لم يوضح لماذا أقدم على خطوة مساعدته على الكلام في هذا المحفل التطبيعي.
محفل اختصر وزير الخارجية البحريني خالد بن أحمد آل خليفة غايته بشكل أوضح مما كان متوقعاً، حين قال، في تسجيل فيديو مسرّب، إن مواجهة ما وصفه بـ "التهديد الإيراني"، يعد "أخطر وأهم" من القضية الفلسطينية، في الوقت الحالي. وعلى الرغم من أن الفيديو نشره حساب نتنياهو في موقع "يوتيوب"، قبل أن يحذفه بعد وقت قصير من نشره، إلا أن الوزير البحريني لم يخرج بأي نفي له، بل زاد عليه في تصريحاتٍ لوسائل إعلام إسرائيلية "تبشّر" باختراق سيحدث في العلاقات الإسرائيلية العربية "عندما يحين الموعد المناسب".
تصريحات الوزير البحريني وتصرفات الوزير اليمني، ومزاح الرئيس الأسبق للاستخبارات السعودية تركي الفيصل مع الصحافي الإسرائيلي باراك رافيد، ولقاء وزير الخارجية العماني يوسف بن علوي العلني والمباشر مع نتنياهو، كلها مؤشّرات تثبت أن المؤتمر حقق الغاية المنشودة التي عقد من أجلها. الخطر في المنطقة لم يعد إسرائيل، بل أصبحت هذه "شريكاً" للدول العربية في مواجهة الخطر المستجد على المنطقة، والمتمثل بإيران. ولن يطول الوقت كثيراً قبل أن تبدأ اللقاءات الرسمية بين مسؤولين إسرائيليين وآخرين من الدول العربية بذريعة متابعة ما تم الاتفاق عليه في وارسو، وربما إنشاء ممثليات رسمية عربية في تل أبيب للغرض نفسه.
لم يكن نتنياهو والرئيس الأميركي دونالد ترامب يريدان أكثر من ذلك، خصوصاً أن الأول يقترب من انتخابات تشريعية تثير قلقه، وهو كان يريد هدايا ترفع من نسب المقاعد التي سيحصل عليها في الكنيست، فجاءته الهدية العربية الأميركية من وارسو: محفل تطبيعي لم يسبق أن شهدته العلاقات العربية الإسرائيلية في ذروة انعقاد مفاوضات السلام على أكثر من مسار، وترسيخ واعتراف بوجود إسرائيل في المنطقة، ليس بصفتها أمراً واقعاً لم يعد بالإمكان تجاوزه، بل شريكاً أيضاً في مواجهة "المخاطر التي تحدق بالشرق الأوسط".
لن تقف "هدايا" وارسو لنتنياهو عند هذا الحد، وحلقات أخرى ستكون في طريقها إلى الظهور قريباً.. فترقبوها.
حسام كنفاني
حسام كنفاني
صحافي لبناني، يشغل حاليًا منصب مدير قطاع الإعلام في فضاءات ميديا، له منشورات في عدّة صحف لبنانية وعربية. يعمل في مجال الصحافة منذ أكثر من 25 عامًا، وهو من مؤسّسي موقع وصحيفة "العربي الجديد".