الثورة الإيرانية في الأربعين

الثورة الإيرانية في الأربعين

13 فبراير 2019

مسيرة بمناسبة ذكرى الثورة الإيرانية في طهران (11/2/2019/الأناضول)

+ الخط -
أحيت إيران قبل يومين الذكرى الأربعين لقيام ثورتها الإسلامية التي اندلعت قبل أربعة عقود. وهذه فرصة لإعادة قراءة سر استمرار واحدةٍ من أبرز ثورات القرن العشرين ظلت قائمة، على الرغم من كل التحديات التي واجهتها، والتناقضات التي حملتها في داخلها منذ قيامها. وأيضا لطرح السؤال بشأن مدى تـأثيرها على محيطها سلبا وإيجابا. فبعد أربعة عقود على قيامها، ما زالت الثورة الإيرانية تثير مخاوف أعدائها وشكوك خصومها، وفي الوقت نفسه، تجد من يدافع عنها ويناصرها.
مثل كل الثورات، كانت الثورة الإيرانية عند قيامها رومانسية، حملت معها آمالا وأحلاما كثيرة لشعب إيران، ولشعوبٍ كثيرة كانت واقعة تحت نير أنظمتها وظلمها، فنظام الشاه محمد رضا بهلوي الذي أسقطته الثورة الخمينية لم يكن بتلك الرومانسية التي يحاول اليوم بعضهم أن يصوّره عليها، فهو كان نظاما قمعيا يعتمد على شرطة "السافاك" سيئة السمعة، بسبب ممارستها التعذيب والإعدام في حق معارضي النظام البهلوي. وعلى الرغم من أن إيران كانت تعتبر قوة عسكرية كبيرة في عهد الشاه الذي كان يطمح إلى امتلاك خامس أقوى جيش في العالم، إلا أن الشعب الإيراني كان يعاني من الفقر والتجهيل، بسبب استشراء الفساد وسوء التدبير.
عندما قامت الثورة الإيرانية عام 1979 كان أول نجاحٍ يحسب لها أنها حرّرت شعبها من 
نظام ملكي مقيت ومخيف في الآن نفسه، لكنها أورثتهم نظاما بشعاراتٍ برّاقةٍ لا يقل سوءا عن النظام الذي جاء لتغييره. وككل الثورات، حملت معها شعاراتٍ كبيرة، وباعت لأتباعها آمالا وطموحات تحطم كثير منها على صخرة الواقع العنيد، فالثورة التي جاءت للدفاع عن المستضعفين لم تسلم هي نفسها من الفساد الذي نخر عديدا من وعودها بمنح الإيرانيين مستقبلا زاهرا. والثورة التي قامت من أجل تحرير الشعب هي نفسها التي بدأت بأكل أبنائها وتصفية حلفائها داخل صفوف الجيش، وبين القوميين واليساريين والشيوعيين. وطوال العقود الأربعة الماضية، لم تتوان في قمع معارضيها، بمن فيهم أتباعها وأبناؤها ممن ينعتون إصلاحيين. وعملت على تقييد الحريات بكل أنواعها، ولم تحقّق للشعب الإيراني الرفاهية التي وعدته بها، ليس فقط بسبب الحروب التي فرضت على بلادهم، أو بسبب العقوبات الاقتصادية التي ما زالوا يعانون منها، وإنما أيضا بسبب الفساد المتفشي داخل النخبة الحاكمة، ونتيجة التوجهات الإستراتيجية والخيارات السياسية والاقتصادية للنظام الذي جاءت به الثورة.
ولم تنحصر آثار الثورة الإيرانية فقط في الداخل، وإنما انعكست أيضا على محيطها الإقليمي، فقد كانت لقيام نظام ثيوقراطي شيعي في إيران آثار سلبية كثيرة، خصوصا في المنطقة العربية. ومن أبرز تلك الآثار السلبية المباشرة لنجاح الثورة الإسلامية في إيران ظهور الوعي في العالم السني العربي بأهمية الدين في تأجيج الشعور الجمعي داخل المجتمعات العربية الإسلامية. ولم يكن مفاجئا أن يكون ظهور ما سميت صحوة الإسلام السياسي السني في المنطقة العربية متزامنا مع قيام الثورة الدينية في إيران. وكان ظهور بعض تلك التيارات صدى لنجاح الثورة الإسلامية، وبعضها جاء رد فعل مباشرا على شعار تصدير الثورة. ولكن للأسف، أغلب تلك التيارات إما أحدثتها أو استعملتها الأنظمة الملكية والدكتاتوريات العسكرية التي كانت تخاف على عروشها من ثوراتٍ شعبيةٍ مماثلة. ومن تحت عباءة تيارات الصحوة الإسلامية السنية تلك، خرجت عديد من حركات الإسلام السني السياسي، بما فيها المتطرّفة الموسومة اليوم بالإرهاب. كما ساهم التوجه العقائدي الشيعي للثورة الإيرانية في إحياء النعرات الطائفية الدينية، وإحياء الصراع الشيعي السني من تحت رمادٍ يعود تاريخه إلى أربعة عشرة قرنا. ولمواجهة شعار "تصدير الثورة" الذي رفعته طهران، لجأت أنظمة عديدة في الدول السنية إلى تنمية وتشجيع تيارات الإسلام السياسي السني الذي تحول بعضه إلى قنابل موقوتة، أول ما انفجرت داخل بلدانها، وضد الأنظمة التي رعتها.
وفي المقابل، نجحت الثورة الإيرانية في فرض إيران على خريطة المنطقة قوة عظمى إقليمية
 لا يمكن تجاوزها في أية معادلة إستراتيجية. وعلى الرغم من حالة الضبط القوي والصارم التي يفرضها النظام على الدولة والمجتمع، تبقى إيران من الدول القليلة في المنطقة التي تعرف ما يمكن أن نسميها "ديمقراطية الملالي" التي تسمح بإجراء انتخاباتٍ حتى لو كانت شكلية، وتمنح للمرأة هامش حرية ومشاركة في الحياة العامة أكبر مما هو موجود في دول مجاورة، وتوفر لشعبها الحد الأدنى من الخدمات الاجتماعية في مجال التعليم والصحة، ما يضع الشعب الإيراني من بين الشعوب المحظوظة في المنطقة التي ما زالت تحظى بخدمات مقبولة من الدولة.
بعد مرور أربعة عقود على قيام ثورتها، فشلت حتى الآن كل المحاولات الخارجية لمواجة إيران أو احتواء خطرها أو عزل نظامها، وما حصل هو العكس تماما. فإيران هي التي استفادت من أخطاء أعدائها وخصومها في المنطقة. خرجت منتصرة سياسيا من الحرب العراقية الإيرانية التي كان من نتائجها السلبية المباشرة إسقاط نظام صدام حسين، وتحطيم العراق، وتفكيك العالم العربي الذي مازال يعاني من آثار تلك الحرب المدمرة. وفي الحصيلة، إيران هي التي عرفت كيف تخرج مستفيدةً من كل الكوارث التي عاشتها المنطقة، وما تزال، منذ احتلال الكويت إلى احتلال العراق، وغزو أفغانستان والحرب على الإرهاب، واستغلت ثورات الربيع العربي وتداعياتها لمد نفوذها ووجودها خارج حدودها، وبات تأثيرها اليوم حاضرا فعليا في أربع عواصم عربية، هي بيروت ودمشق وبغداد وصنعاء.
لقد نجحت الثورة الإيرانية في تحويل نقط ضعفها إلى مصدر تستمد منه أسباب قوتها لإدامة وجودها. استعملت عزلتها لإحكام قبضتها على الدولة والمجتمع، بدعوى حماية مبادئ الثورة. ووفر عداء الغرب لها، وخصوصا أميركا، الخطر الخارجي الذي تحتاجه الأنظمة القمعية شماعة لتعليق أخطائها وفشلها عليه، وفي الوقت نفسه، لفرض سيطرتها على شعوبها. وبعد مرور أربعة عقود على قيام ثورته، ما زال النظام في طهران يلجأ إلى عمليات الحشد والتعبئة التي لم تعد الغاية منها استعراض العضلات، وإنما تم تحويها إلى أسلوبٍ مخيفٍ للحكم والتحكّم هو القائم اليوم في إيران.
D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).