في رحيل مصطفى العلوي.. تجربة صحافية مغربية ثريّة

في رحيل مصطفى العلوي.. تجربة صحافية مغربية ثريّة

30 ديسمبر 2019
+ الخط -
ما أن ذاع خبر وفاة الصحافي المغربي مصطفى العلوي مدير "الأسبوع الصحفي"، والذي عاصر ثلاثة ملوك، حتى اشتعلت شبكات التواصل الاجتماعي بمئات التدوينات التي عبرت عن فقدان المغرب هرماً إعلامياً، كما عدّدت مناقب الراحل، ورصدت أطواراً مهمة ومراحل متداخلة ومحطات مضطربة من حياته ومساره المهني. ويعكس هذا الاهتمام النادر والاستثنائي من شرائح واسعة من المغاربة المكانة التي كان يحظى بها صاحب الزاوية الشهيرة في المغرب، "الحقيقة الضائعة"، والتي كان يكتبها بلغة سلسة، وبنَفَس المطلع على الخبايا وخلفيات الأحداث. كما يجسد هذا الاهتمام التقدير الكبير الذي حظي به، طوال مزاولته مهنةً، ورّطته في متاعب ومحاكمات وصراعات مع مختلف مراكز السلطة، خصوصا وأنه كان يؤمن بأن على الصحافي أن يكون مشاغبا.
بدأ مصطفى العلوي مهنة المتاعب في السنوات الأولى لاستقلال المغرب، وتسلّح مبكّرا بأن الصحافة وجدت لقول الحقيقة، وأن على الصحافي أن يكون جريئا وحاسما وصريحا، وأن لا يساوم في البحث عن الحقيقة. علما أن تجربته كانت مخلوطةً بصعوباتٍ كثيرة، خصوصا في فترة كان فيها القانون يبدأ من مراكز الشرطة، ويعتبر العمل الصحافي في المغرب مزعجا، والصحافيين مصدر الإزعاج الأول لمن يريد أن يبقى في وضع استثناء.
حفّزه شغفه بمهنة الصحافة التي قدم إليها من الوظيفة العمومية لإصدار مجلة المشاهد أواخر 
خمسينيات القرن الماضي، وكانت تصدُر بالألوان، ما اعتبر آنذاك ثورةً حقيقية في مجال الطباعة. وقد تميّز بقدرته على التقاط الأخبار وتحقيق السبق الصحافي، فقد كانت قناعته وظلت أن الصحافي هو المصدر، ولديه القدرة على نسج العلاقات مع الشخصيات النافذة وكبار المسؤولين. وكان هذا ما ضاعف من التحسّس من مصطفى العلوي، والنظر إليه صحافيا مزعجا بامتياز، فكان أخذُ الحيطة منه وترهيبه، للحيلولة دون كتابته عمّا كانت تعتبر، في رأي حراس الدولة، تابوهاتٍ سياسية، ليس من حق صحافي الاقتراب منها. ولكن العلوي آثر أن يمشي فوق الألغام عوض الاستسلام لمشيئة الحاكمين، فكانت له جولات ومعارك ساخنة مع وزير الداخلية الراحل، إدريس البصري، بدأت أولاها سنة 1963،عندما تعرّض للاختطاف، وتم إيداعه "دار المقري"، وكانت مركزا للتعذيب، ورمزاً لسنوات الرصاص والقمع بكل أنواعه، وكان البصري آنئذٍ ضابطاً في الشرطة القضائية في الرباط. وكانت التهمة التي ألصقت به تأييده المعارضة اليسارية التي كانت في قوة بالغة، ممثلة في حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الذي ضم أشهر معارضي حكم الملك الحسن الثاني، وفي مقدمتهم المهدي بن بركة. ويحكي العلوي إنه خلال مقامه في دار المقري، التقى الطيار المصري، حسني مبارك (الرئيس لاحقا)، الذي اعتقل على الأراضي المغربية إبّان دعم النظام الناصري الجزائر ضدا على المغرب خلال حرب الرمال عام 1963.
في أجواء مكهربة، موسومة بالرعب والخوف، بفعل القبضة الحديدية التي انتصرت لها المؤسسة الأمنية تحت إمرة الجنرال أوفقير، يفيد العلوي بأنه كان في مقدور قوة من الشرطة 
أن تذهب إلى مطبعة صحيفة العلم (الناطقة باسم حزب الاستقلال) وتحرقها. ويحكي العلوي طرفة لا تخلو من دلالة، حدثت له في أوائل حياته الصحافية، نشر، في صحيفته في 1963، خبرا عن اعتقال مجموعة من منتسبي حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، في شكل يظهر بأنه اكتشاف مؤامرة لمحاولة للقيام بانقلاب، فرفع ضده وزير العدل دعوى قضائية، وتمت المتابعة، وشعر العلوي بخوف، فقد كان أوفقير وزير الداخلية، وتوبع بتهمة نشر خبر كاذب والمسّ بأمن الدولة الداخلي، ولكن رئيس المحكمة استدعاه صباح المحاكمة، وأخبره بصدور أمر بإلغاء الدعوى، "لأن الخبر الذي نشرته صحيح".
ويسجل مصطفى العلوي، في أكثر من مقابلة معه، أن علاقته بإدريس البصري الذي كان أقوى وزير في عهد الملك الراحل الحسن الثاني كانت مطبوعة بالرغبة في الانتقام، وإثارة الخوف تجاه نشر الجزئيات والتفاصيل التي كان يقتات عليها الصحافيون الأجانب، وهذا أمر كانت تهتز له فرائص البصري، ما دفعه إلى إعلان الحرب على العلوي، والتي توّجت باستدعائه إلى وزارة الداخلية، ليقول له البصري "الملك (الحسن الثاني) يمنعك من الحديث عن المخزن"، فأجاب العلوي بأنه سينفذ رغبة الملك، فرد البصري: لا، المخزن هو أنا، وعليك أن تمتنع عن الكتابة عني.. علما أن الحسن الثاني كان معجبا بجرأة مصطفى العلوي وصلابته، وكان قارئا مداوما لمقالاته المركّبة القابلة لكل تأويل. بل إن علاقة الصحافي المعروف بالملك الراحل كانت مميزة، وقد حكى مرة إنه ذهب ليغطي مظاهرات ساخطة على النظام في منطقة الريف، على خلفية أحداث اندلعت عام 1959، فأتى به مدير الأمن الوطني، وسأله عما يفعله هناك، فأجابه بأنه كان يغطي زيارة المواطنين عينا طبيعية بهدف الاستشفاء، تسمى "العين الحمراء". ثم استقبله الحسن الثاني، وكان وليا للعهد، وخاطبه "إذا كنت ضحكت على مدير الأمن الوطني فلن تضحك علي، وإن لم تخبرني أين كنت فسأعطيك أنا كل 
التفاصيل".. ومن وقائع أخرى، تحفل بها سيرة فقيد الصحافة المغربية، أن الملك الحسن الثاني التقى سرا قادة من حزبي الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وجعلهم يحلفون على المصحف بعدم الحديث عن انعقاد هذا اللقاء، لكن الجميع فوجئوا بمصطفى العلوي ينشر الخبر في صحيفته، فبعث الملك إليه يطلب منه اسم من سرّب خبر اللقاء، فردّ إلى الملك في ورقة "يا سيدي هل تذكر يوم تقابلنا في دار الباهية في مراكش، وقلت لي إن الصحافي المحترم هو الذي لا يكشف مصادره؟".
لم يتردد عميد الصحافيين المغاربة في توجيه سهام نقده اللاذعة إلى صحافة بلاده، فقد كان يعتبر أن غالبية الصحف المغربية أصبحت " تلجأ إلى تناول قضايا ثانوية سطحية"، ويسيطر على صحافييها، عوض الجرأة، هاجس الرقابة الذاتية، على خلاف صحافة الأمس التي كانت تنشغل، في معالجاتها المهنية، خلال الستينيات والسبعينيات، بالقضايا والأحداث الكبرى التي كانت تستجيب للاهتمامات الحقيقية للرأي العام وحاجياته في الأخبار. وعزا العلوي تراجع أداء الصحافة المكتوبة إلى ما وصفه بـ"تحكم الأجهزة غير المرئية" في دواليب السلطة الرابعة، وفي مرحلةٍ تمكّنت هذه الأجهزة إلى "تأسيس وتسيير إمبراطوريتها في مجال الصحافة والإعلام". وهو ما أدى، يضيف مصطفى العلوي، إلى غياب صارخ لمقالات الرأي العميقة والافتتاحيات.
ومما ميز الراحل أنه أصدر 15 صحيفة ودورية على امتداد مسيرته المهنية، كلما كانت تتعرض واحدة منها للحظر أو التوقيف، كان يبادر إلى إصدار عنوان جديد، أخبار الدنيا ودنيا الأخبار وأطياف وستة أيام، ويومية المساء وبريد المغرب وفلاش ماكزين والكواليس والفجر والأسبوع الصحفي والسياسي، وصولا إلى الأسبوع الصحفي التي ما زالت تصدر، وتحظى بنسبة قراءة مهمة غير متأثرة بسطوة الإعلام البديل، ما يعود، في المحل الأول، إلى كاريزما مصطفى العلوي ومصداقيته، وجاذبية ما كان يكتبه في زاويته "الحقيقة الضائعة". وقد أصدر كتابه "مذكرات صحافي وثلاثة ملوك"، وتولى إعداد المذكرات للنشر الصحافي يونس مسكين، ويتضمن صورا ووثائق نادرة. وتحدث فيه عن تجربته الإعلامية، خصوصا في محطاتها الأساسية، كتغطية المؤتمرات الصحافية للملكين الراحلين محمد الخامس والحسن الثاني، فضلا عن تغطيته حرب فيتنام، واعتقال ضباط إسرائيليين له في أثناء الغزو الإسرائيلي للبنان صيف 1982. وأن الملك محمد السادس أنقذ حياته عندما تكفل بمصاريف علاجه في إسبانيا، بعد إصابته بمرض خطير. وجاء على العلاقة الجيدة التي كانت تجمع الملك الراحل محمد الخامس بالصحافيين، مؤكدا أنها كانت تنطوي على تفاصيل إنسانية غنية، إلى غير ذلك من وقائع وتفاصيل وحوادث، في القراءة عنها بقلم مصطفى العلوي ومروياته فائدة ومتعة كثيرتان.