"الآثار الجانبية للجمال"

"الآثار الجانبية للجمال"

30 ديسمبر 2019
+ الخط -
منذ المشهد الأول فيه، يأسرك فيلم "الآثار الجانبية للجمال" (collateral beauty)، ويضعك وجها لوجه أمام الدهشة، فتجد نفسك تتساءل بذهول: كيف لمجموعة ممثلين، من حائزي جوائز أوسكار، لم تثنهم عن أداء أدوار ثانوية مساعدة أضافت الكثير للفيلم، مثل إدوارد نورثون، وكيت وينسليت، كيف لهؤلاء المبدعين أن يعبروا، بهذه الدقة والبراعة، عمّا يجول داخل روحك من غضب وحزن وخوف وارتياب وألم يستنزف جملتك العصبية. تحبس أنفاسك وأنت تلاحق ملامح الممثل، ويل سميث، بدور هارولد، مجسّدا حالة اليأس القصوى، والرفض الكلي لوهم الحياة الجميل، بعد أن كان يقدم دروسا في الأمل والتصميم والإرادة، لتحفيز صغار الموظفين من موقعه، مديرا تنفيذيا وشريكا حاد الذكاء في شركة إعلانات ناجحة، تحقق أرباحا مجزية، بفضل حنكته الإدارية.
ينهار ذلك كله دفعة واحدة، لحظة رحيل صغيرته أوليفيا، إثر إصابتها بمرض خبيث، أجهز على سنوات عمرها الست. يفقد الأب الشاب الرغبة في الحياة التي بات يزدريها. يهجر زوجته التي يحب، ويكتب لها يوم إتمام إجراءات الطلاق "لو أننا نعود أغرابا". وفي لحظة بوح أمام طليقته (يغفل المخرج متعمدا طوال الفيلم عن توضيح الصلة الحقيقية بينهما، ويقدّمها للمشاهد امرأةً غريبةً مرت بتجربة فقد مشابهة)، يقول هارولد للمرأة الغريبة، قبل إطفاء أجهزة الإنعاش عن جسد ابنته: صليت لكن للكون، بل صليت للموت نفسه، عرضت عليه صفقة مبادلة، يا موت خذ روحي، ودع الصغيرة تعيش، لكنه رفض، لأنه، بكل جبروته، لا يستطيع العبث بالمواقيت!
ردّت الأم المكلومة: قبل إطفاء الأجهزة عن جسد ابنتي، ظهرت امرأة غريبة بجانبي، وسألتني عمّن أوشك على فقدانها، وحين أجبتها إن الصغيرة تواجه الموت في الغرفة المجاورة وحدها الآن، نظرت إلي، وقالت بلهجة بدت تلقائية: احرصي على ملاحظة الآثار الجانبية للجمال. .. لما تقل المرأة الغريبة العبارة الغامضة التي لم أفهمها حينذاك بدافع الشفقة أو التعاطف المتوقع، بل أحسست أنها قالتها بدافع الخبرة. وبعد مرور سنة على رحيل الصغيرة، كنت أبكي بشدة، وفي كل مكان، ليس فقط بدافع الحزن، بل بسبب تلك القدرة على الاتصال العميق بكل شيء. عندها فقط أدركت معنى الآثار الجانبية للجمال، حين نغدو أكثر رهافة وإحساسا بجوهر الحياة التي يكشفها الفقدان.
ينكفئ هارولد على نفسه، متراجعا فاقدا اليقين، رافضا محاولات الشركاء القلقين، ليس فقط على مصير الشركة الآخذ في الانهيار، غير أنهم، وعلى الرغم من مآسيهم الشخصية، مرعوبون على سلامة صديقهم النفسية، وقد تمادت أحزانه مع مرور الوقت، فيذهبون بعيدا في الحب والاكتراث، ويتلصّصون على صندوق بريده، ليكتشفوا أنه يكتب رسائل غاضبة إلى الموت والزمن والحب نصوصا وجودية عميقة، زاخرة بالغضب واللوم والتنديد، يلقيها في الصندوق، ويعود إلى عتمته. يتفتق ذهن أحدهم عن خطةٍ عجيبةٍ هدفها إخراج صديقهم من النفق المظلم الحالك، ويكلفون ثلاثة ممثلي مسرح، لتجسيد أدوار الزمن والموت والحب، يظهرون لهارولد بالتناوب، في أوقات مدروسة، يناقشونه في محتوى رسائله الغاضبة في سياق حواراتٍ عميقةٍ لا تخلو من عزاء. تساهم تلك الحوارات في خروج هارولد تدريجيا من أحزانه، واستعادة قدرته على الحب والأمل، وتخلصه من حالة الإنكار، وتعيده باكيا بحرقةٍ على صدر زوجته وصديقته التي أرادها غريبة، ناسيا أنها شريكته الوحيدة في الألم الذي يحرق الروح.
"الآثار الجانبية للجمال" فيلم سينما ساحر، زاخر بالتفاصيل المذهلة، بحيث يشبه قصيدةً طويلةً، تقر بحقنا في الهشاشة، وتفجر الأحزان كلها، حين نواجه حقيقة الموت، من دون ادّعاء صلابة مفتعل، وتصف الزمن بالوغد الضئيل الشرير المغرور، غير أنها تحتفي بالحب قيمةً إنسانيةً كبرى، وخلاصا وحيدا، لا تستقيم حياة بدونه، وتعوّل على اللحظة الراهنة، باعتبارها الحقيقة الوحيدة التي لا نملك تفادي مواجهتها، مهما كانت باهظة.
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.