صفعة شرطي

صفعة شرطي

29 ديسمبر 2019

(مروان قصاب)

+ الخط -
خلال تطفلي البحثي الذي دفعني إلى حضور بعض الجلسات لمحاكمات تجري في قصر العدل في باريس لبعض "العائدين" من صفوف الإرهاب الداعشي، ويحملون الجنسية الفرنسية، دفعني الملل من سماع الأسطوانة نفسها من المتهمين إلى الخروج من القاعة بحثاً عن هواءٍ نظيف، وابتعاداً عن النظر شزراً في وجوه هؤلاء المجرمين/ الضحايا. وفي أثناء تجوالي في قصر العدل، سمعت جلبةً أمام إحدى القاعات، فتوجهت إليها بحثاً عن الإثارة. حينها، دعا الموظف المسؤول عن باب القاعة الجمهور إلى التزام الهدوء والدخول إلى القاعة للمتابعة. وضعت رأسي بين الرؤوس، متجها إلى القاعة من دون أية دراية بطبيعة المحكمة التي تجري سعياً إلى الهروب من ترّهات العائدين.
على عكس خواء قاعة محاكمة الإرهابيين العائدين من سورية ومن العراق، امتلأت القاعة الثانية بأعداد من الحضور فاقت سعة المكان، ما اضطر بعضهم للجلوس أرضا بتسامحٍ من رئيس المحكمة الذي طالب، بدايةً، بأن يخرج كل من ليس له مكان للجلوس. وبعد أن ساد الهدوء النسبي، انطلقت جلسة النطق بالحكم في قضيةٍ تبيّن أنها تتعلق بانتهاكاتٍ ارتكبها عنصران من قوات حفظ النظام ومكافحة الشغب. وقد حفلت الأشهر الماضية بمئاتٍ من المرويات المتناقضة عن طريقة تعامل رجال الشرطة مع المتظاهرين من أصحاب السترات 
الصفراء، والذين كانوا يملأون شوارع باريس احتجاجاً على شظف العيش، فكثير من التوصيف أتى ليُثني على المهنيّة التي يتمتعون بها، وعلى صبرهم أمام استفزازات متطرفين انضموا للتظاهرات بغرض تخريب الممتلكات العامة. ومن جهة أخرى، تعرّضوا لانتقادات واسعة من الإعلام ومن منظمات حقوقية، وذلك لمبالغتهم في استعمال القنابل المسيلة للدموع وتعرّضهم للمتظاهرين بخشونة.
وبعيداً عن أي إعجابٍ ساذجٍ أو مديح مجاني، وسعياً إلى تجنّب الاتهامات والتجاذبات والاجتزاء البريء أو سواه، أحصر كلماتي هنا بما شهدته هذه القاعة من حوار بين "المتهم" و"الضحية"، فتهمة الشرطي الأول كانت أنه صفع أحد المتظاهرين الذي شتمه. صفعة واحدة بالتأكيد سجلتها عدسات الصحافة، وتم نشرها على نطاق واسع. وبعد أن أدلى الادّعاء بمرافعته الطويلة، والتي حفلت بإشاراتٍ واضحةٍ إلى حقوق الإنسان ودور جال الأمن ودور القانون، حتى خُيّل لي أنني في صفٍّ متقدمٍ في كلية الحقوق، أعطى رئيس المحكمة الكلمة للشرطي المتهم ومحاميه. وقد بدأ المتهم مداخلته بتوجيه الاعتذار، وهو يكاد يخشى ملاقاة عيني الضحية، طالباً الصفح منه ومن أهله، مُقدّراً مدى الأذى الذي سبّبه لهم إثر ارتكابه جنحة 
الصفع. ومن ثم انتقل المتهم إلى سرد يوميات رجال الشرطة الذين يُطلب منهم تأطير المظاهرات، ومنع عمليات التخريب على هوامشها، مشيراً إلى التعب الجسدي والنفسي الذي يُصيب الأفراد، ما يدفعهم أحيانا إلى إساءة التقدير، ومن ثم إساءة التصرّف. وفي كل مرافعة المتهم، لم يرد أي اتهامٍ معاكسٍ لمن تلقّى الصفعة، باعتبار أنه شتم الشرطي بأقذع الألفاظ كما سجلت الكاميرا. وحتى محامي المتهم، فقد حصر مرافعته بالتشديد على ظروف رجال الشرطة الصعبة، وتأثير ذلك على تصرّفاتهم أحياناً، فالشتم لم يتم اللجوء إليه للتبرير لمعرفة المدّعى عليه بأنه لا يفيده بأيّ حال. وعندما مُنح الكلام للضحيةَ، فقد بدأه بالإشارة إلى توقفه عن العمل عشرين يوما، بوصفةٍ طبيةٍ نتيجة تعرّضه إلى صدمة نفسية، وإلى استمراره بمراجعة طبيب نفسي، حتى بعد مرور ستة أشهر وأكثر على الواقعة. وهو أيضاً، لم يتطرّق ألبتة إلى مسألة الشتم التي حرّضت ردة الفعل الشرطية.
أما الشرطي الثاني، فقد كانت تهمته أخطر بكثير، على ما يبدو، لأن المحكمة خصّصت له وقتاً أطول، وهي تتعلق برمي حجر كبيرٍ كان قد أصاب خوذته باتجاه المتظاهرين، فأعاده إلى المرسل، أو هكذا ظن. وقد جاء في تفاصيل الاتهام بأنه بهذا التصرّف الأرعن، سعى إلى إيقاع إيذاء جسدي لمعرفته بأن من رمى عليه الحجر يعرف أنه محميّ، وأن إعادة الحجر على متظاهر غير محميّ جريمة تستحق أشد العقاب. وتكرّر مشهد الدفاع من الشرطي المتهم، 
والذي لم يتوقف ألبتة أمام مسألة تلقيه الحجارة، وبأن ما فعله ما هو إلا ردة فعل، لكنه استفاض في شرح معاناة رجال الشرطة في هذه الأوقات التي يستمرّون في الخدمة خلالها وقتا يتجاوز عشر ساعات يومياً. وكما فعل زميله الأول، فقد تقدّم الشرطي الثاني بطلب الصفح ممن يمكن أن يكون الحجر قد أصابه. وفي الحقيقة، لم يصب الحجر أحداً من المتظاهرين، ولكن الإعلام نشر صورة الشرطي وهو يرميه.
تم إصدار الحكم بعدة أشهر سجن مع وقف التنفيذ على كلا الشرطيين، مع ديباجة أخلاقية مستفيضة، وتم تغريم أولهما بمبلغ مالي لفائدة الضحية، ولمؤازرته في محنته النفسية الناتجة عن تلقّي الصفعة. ومؤكّد أن هذا المشهد ليس كافياً لتبرير تجاوزات شرطية تخلّلت التظاهرات، ولكنه مثالٌ على الدور الإيجابي للإعلام في دولة القانون، فبمجرد أن تم توثيق الحدثين إعلامياً، صار صعبا جدا على التراتبية الأمنية، وحتى السياسية، أن تتنصّل من المسؤولية. وفي النهاية، لمن تُعتبر الصفعة في "ثقافته" خبزاً يومياً، فما ورد في أعلاه سبب إضافي لتعزيز شعور القهر الذي يتعايش معه في المنطقة العربية منذ (...)؟