حكومة تكنوقراط وقضايا المرحلة الانتقالية

حكومة تكنوقراط وقضايا المرحلة الانتقالية

23 ديسمبر 2019

محتجون في بيروت على ترشيح دياب لرئاسة الحكومة(19/12/2019/فرانس برس)

+ الخط -
سُميت ثورات لبنان والعراق، والسودان والجزائر، بالموجة الثانية. يجزم أغلبية المحللين أنها ثورات طبقية، وهذا لا يعني أنها ثورات عمالية أو فلاحية أو اشتراكية، وتهدف إلى تغيير مجتمعي كامل، لا؛ هي ثورات لها جذر اقتصادي ومعيشي واضح، حيث تفجّرت بعد انهيار اقتصادي كبير، ومستويات غير مسبوقة في الفساد والنهب، تلاه فرض ضرائب عالية أو رفع أسعار الوقود، وبالتالي من الخطأ بمكان تغييب الجذر الاقتصادي والتردّي الاجتماعي للأغلبية سببا مباشرا ومركزيا للثورات. في لبنان والعراق محاصصة طائفية، وفيهما درجة ما من الحريات، وهناك من يصفها بالديمقراطية الطائفية، بمعنى أن مشكلة تلك الحكومات ليست في الديمقراطية الممسوخة، وضرورة تعديلها وتطويرها فقط "التغيير السياسي الشامل"، كما رغب الكاتب علي العبدالله في مقالته "تعقيب .. لحكومة التكنوقراط مهمات أخرى"، والمنشورة في 18/12/ 2019، في العربي الجديد"، وردّ فيها على مقال كاتب هذه المقالة "هل الحلّ في حكومات التكنوقراط؟"؛ وعدا ذلك، فقد أصبحت قوى السلطة والثورة في مرحلة غير قادرة إحداها على الحسم، وهو ما كتبته في مقالتي الأولى وكذلك علي العبدالله، ولهذا اختير التكنوقراط.
يتعلق الخلاف الذي ظهر في تحليل كاتبنا بقضايا كثيرة، ومنها أيديولوجي أكثر مما هو فكري، أي هناك رفض للجذر الاقتصادي للثورات، وفي حال اعتُرف به، فيكون جانبا من جوانب التغيير السياسي الشامل. الفكرة الأخيرة برأي العبدالله هي الجذر، أي هي هدف الثورات؛ فهو يُهمّش الاقتصادي، ويُعلي من شأن السياسي، فيصبح الأول ملحقاً بالثاني، بينما الثورات تقول 
العكس، أي هي ثورات شعبية "طبقية" وتريد تأمين مصالحها، ولأجل ذلك ستغيّر من طبيعة النظام وتحوّله إلى ديمقراطي بالتأكيد. الآن لدينا فكرة التكنوقراط، وبرأي علي العبدالله: بموافقة الأنظمة الحالية عليها "يكون النظام قد سلم بمطالب الحراك بالتغيير الشامل". ونفهم هنا أن أهداف الحراك هي تشكيل حكومة تكنوقراط، وهذا كما تَحفّظَ هو وقال، في حال وافقت الأنظمة على ذلك، وبذلك التشكيل تصل الثورات إلى أهدافها؟
هل فعلاً أهداف الثورات تشكيل حكومة تكنوقراط؟ لم أعط في مقالتي أهمية كبرى لإمكانيات التكنوقراط، وأرى أن الحكومة التكنوقراطية ليست وسيطة بين طرفين غير قادرين على الحسم فقط، بل هي وصفة لإنقاذ النظام الحاكم من السقوط الكامل، وطبعاً قوة الثورات ستجبر التكنوقراط وبقايا النظام القديم على تقديم تنازلات كبرى! ضحّى الجيش السوداني بالرئيس، وحلَّ حزبه وبعض أوجه النظام القديم. وفي الجزائر يقدم الجيش بعض قيادات مرحلة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة إلى المحاكم ويسجنهم. وفي لبنان، قد لا تمر وصفة "تكنوقراط وسياسيين"، ولا حتى تكنوقراط "ليبرالي". والأمر نفسه في العراق. ولو تذكرنا فشل الحكومات التونسية في تجاوز المشكلات الاجتماعية والاقتصادية منذ العام 2011، فإن أية حكومات تستند إلى رؤية اقتصادية ليبرالية، وتابعة للبنك الدولي، ستفشل ما دامت تستقي كل رؤيتها من روشيتات البيوت المالية الدولية.
حاول الكاتب البحث عن سببٍ وجيهٍ لدعوته إلى حكومات تكنوقراطية، وهو أن ضعف طرفي الصراع فرض التكنوقراط، وقد ذكرته في مقال، وهي فكرة كرّرها أكثر من مرّة، أن البلاد 
ستمرُّ بمرحلة انتقالية، وتليها انتخابات ونظام ديمقراطي وسواه، وبالتالي قلّل من شأن فكرتي أن التكنوقراط لم يأتوا بانتخابات، باعتبار أن ذلك أمر طبيعي، حيث التكنوقراط "وليد ظرف غير عادي"؛ ولكن ليس هنا القضية، وهذا لا أختلف فيه معه، خلافي يكمن في رؤية حكومات التكنوقراط، وبرامجها، وعلى الرغم من تباينها من بلد إلى آخر، فإن وصفتها للمرحلة الانتقالية ولكيفية إدارة شؤون البلاد واحدة، وهنا المشكلة الحقيقية، وهي مشكلة تونس بامتياز، ومشكلة الديمقراطيات العربية المنخفضة، والتي وباعتمادها على الرؤية الليبرالية للاقتصاد تُفاقم من الأزمات والمشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية كذلك.
يرى علي العبدالله أن رأيي في التكنوقراط "نظرة خاصة" و"نظرة جد ضيقة"، حيث حاولت تحديد المهام التي على التكنوقراط القيام بها، وتحديداً في الجانب الاقتصادي والأولويات فيه، وكتبت أن مهمته كبيرة، وتطاول كل جوانب المجتمع. والسؤال: ماذا ستفعل حكومة التكنوقراط بما يخص الجانبين، الاقتصادي والاجتماعي، في المرحلة الانتقالية؟ أليس هناك سياسات وبرامج تناط بها، وتؤسس لما بعد "الانتقالية"، وتبدأ حالما تستلم السلطة! ليست المرحلة الانتقالية مرحلة إعداد القوانين وإقرار النظام الديمقراطي ومحاسبة بعض رموز النظام القديم ومحاولة تفكيكه، حيث التكنوقراط محكوم لتوازن القوى، وللصراعات المستمرة؛ مشكلتي مع الثقل الكبير الذي يُعطى للتكنوقراط، وفي بلاد تعاني من مختلف المشكلات، فليس من ديمقراطية فيها والاقتصاد ليس صناعياً والمجتمع لم تتجذر فيه فكرة الحقوق، وغير ذلك هناك 
قوى الجيش أو المليشيات الحامية للنظام القديم، وبالتالي كيف سيستطيع التكنوقراط الحكم في المرحلة الانتقالية، وتسليم البلاد لاحقاً إلى قوى سياسية ستظهر في المرحلة الانتقالية، وتتمثل بعد الانتخابات؟ اختلافي مع دعاة التكنوقراط، والذين يضيقون دائرة رؤيتهم حالما يقدّسون التكنوقراط، ويغيبون نقاش رؤيتهم الحقيقية، والتي لن تتجاوز في الاقتصاد المنظور الليبرالي، وفي السياسة جمع القوى السياسية القديمة والجديدة الأخيرة ليس بالضرورة معبرا عن الثورات! "لاحظ تونس"؛ إن فشل تجربة تونس الديمقراطية، في أن تنهض بالبلاد اقتصادياً واجتماعياً وحتى سياسياً، هو ما دفعني إلى التشكيك في جدوى سياسات التكنوقراط الليبرالية، وأن نجاح وظيفتهم مرتبط بتأسيس اقتصاد وطني، ونظام ديمقراطي، وكذلك دولة ذات سيادة وغير تابعة. وهذه قضايا تتجاوز التكنوقراط، ولهذا كتبت أن الصين نجحت في تطوير اقتصادها ومجتمعها لأن هناك سياسات وبرامج وخطط، على الرغم من أنها لم تتحوّل نحو الديمقراطية، وهذه مشكلة ستظل قائمة في هذا البلد إلى أن يتدقرط.
استشهاد علي العبد الله بالبروفسور والت وايتمان روستو، في كتابه "مراحل النمو الاقتصادي" غير موفق، حيث يقول إن حكومة التكنوقراط ضرورية للانتقال من الاشتراكية إلى الرأسمالية، ويعدّد مراحل ذلك الانتقال. السؤال هنا: ما علاقة هذا الاستشهاد بضرورة التكنوقراط في بلاد كالعراق ولبنان والسودان؟ ألم تجر هذه الدول تحولات نيو ليبرالية في العقود الأخيرة، وقطعت شوطاً في الرأسمالية من قبل، ورأسماليتها هامشية وضعيفة وبأدق المعاني تابعة. ولن أدخل في نقاشٍ بشأن طبيعة اقتصادها وتكوينها التاريخي، وكيف تأسست دولا وأنظمة؛ حيث هي كذلك لأنها جزء من عالم رأسمالي لا يسمح لها بأكثر من ذلك. وطبعاً لن أناقش فكرة الكاتب الخاطئة عن نهاية الماركسية "الأيديولوجيا الشيوعية التي لم يعد لها مكان أو وظيفة" التي أستقي منها الكثير في تحليلاتي.
لم أتطرق في مقالي الأول إلى المرحلة الانتقالية، ولكنني اشترطت أن تنحكم حكومة التكنوقراط إلى سياساتٍ وطنية بامتياز، وتنهض بالاقتصاد أولاً، وبتأمين فرص للعاطلين عن العمل، وهم أغلبية المجتمع. وهذا ثانياً، وثالثاً، لا يمكن أن يتحقق كل ذلك من دون نظام ديمقراطي؛ التكنوقراط إما أن يبدأوا بهذه القضايا أو أنهم سيفشلون. ولن يتعارض برنامجهم هذا مع الليبرالية، ولا مع الاشتراكية، وسيستقي منها بالتأكيد. وبهذا، لا انطلق من نظرة خاصة لطبيعة التكنوقراط ومهامه، حيث إنني أنطلق مما هو ضروري للأكثرية المهمّشة.