إجهاض العنف النسائي حاجة إنسانية

إجهاض العنف النسائي حاجة إنسانية

16 ديسمبر 2019
+ الخط -
ليس ما ترمي إليه المقالة السؤال عن مصير العائدين من تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الذين ترسلهم الدولة التركية إلى أوطانهم، أو عن مصيرهم، فهذه مسألة أخرى لها من يتصدّى لها ويتعامل معها من منطلق المسؤولية المترتبة، أو التي يفرضها الأمر الواقع، أو اعتبارات أخرى. ولكن المسألة التي تثير الأسئلة الحرجة والدقيقة والمهمة هي عن الإرهاب النسائي ظاهرة كرّسها تنظيم الدولة الإسلامية واقعيًا وميدانيًا، مرسّخًا بذلك أهم دعائم العقيدة التي تشكل خطرًا من أكبر الأخطار المهدّدة للبشرية في عصرنا، عقيدة تنظيم طرحَ فكرة الخلافة، وباشر بتأسيسها بإعلانه دولة الإسلام في العراق والشام، معتبرًا، في عقيدته وأجندته، أن هذه الدولة لا حدود لها، ترمي إلى محاربة الكفر في العالم أجمع، وتطويع البشرية لفكرها وعقيدتها وهيمنتها وقوانينها الشرعية، ومن أهم وسائلها لتحقيق هدفها هذا إعداد كوادر بشرية بمثابة سفراء في أنحاء المعمورة، لنشر أفكارها وجذب المتطوعين.
لا تعني هزيمة التنظيم ميدانيًا في العراق وسورية أنه قد انتهى وقضي عليه، بل يمكن القول إن دوره المرحلي في تثبيت بسط الأيدي وتقاسم الحصص فوق أرض سورية والعراق قد ضعف، لكن تنظيمًا من هذا النوع لا ينتهي، فهو فكرةٌ كثيفةٌ مجسّدة فاعلة متقدة، تمتلك متطوعين كثرا موزّعين في أنحاء المعمورة، ينشرون عقيدتها ويجذبون منتسبين جددا، أو معتنقين جددا إليها. وليس هذا النشاط خافيًا على حكومات الدول التي ينشط فيها دعاة من هذا
 النوع، يجندون أفرادًا بعد أن يجعلوهم يدخلون الإسلام الذي يُقدّم إليهم بالصورة التي يطرحها هؤلاء الدعاة.
في تقرير نشرته صحيفة الغارديان البريطانية كتبته نادية خومامي، عن تحذيرات من خطر تولي النساء تنفيذ العمليات في تنظيم الدولة الإسلامية، في غياب معطياتٍ عن عددهن لدى الحكومات والأجهزة الأمنية، يستند إلى دراسةٍ أصدرتها جامعة كينغز كوليدج في لندن، تقول إن غياب المعطيات وتغير موقف التنظيم بشأن الحالات التي يسمح فيها للمرأة بحمل السلاح جعل خطر النساء أكبر مما كانت تتوقعه الأجهزة الأمنية.
يُذكر أن نسبة النساء هي 13% من إجمالي الأجانب الذين التحقوا بتنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسورية بين أبريل/ نيسان 2013 ويونيو/ حزيران 2018، وعددهم 41490 شخصًا. وهذه نسبة لا يمكن الاستهانة بها، ليس فقط لأنها قابلة للزيادة، بل للدور الذي يمكن أن تلعبه المرأة في تنظيمٍ كهذا، فعدا التدريب الذي تلقينه في المناطق التي كانت تحت تنظيم الدولة الإسلامية، وهذا بحد ذاته نقطة هامة وخطيرة، لما يمكن أن ينجم عنها لاحقًا من نقل خبرات وتعليم فنون القتال إلى آخرين أو إلى أطفالهن. جاء في التقرير أن تنفيذ العمليات من نساء التنظيم يأخذ ثلاثة أنماط، هي خلايا نسائية، أو نساء يشاركن في العمليات مع أفراد من العائلة، أو نساء ينفّذن عملياتٍ فردية. وهناك الدور التثقيفي والتربوي الذي يمكن للنساء أن يقمن به، وهو منوط بهن بجدارة في دولة الخلافة، بل في فكرها وعقيدتها. وقد رأينا بمتابعة حالات كثيرة وتحقيقات عن المحتجزين من عائلات أفراد التنظيم وأسره بعد انهياره، أن 
الإنجاب كان هدفًا بحد ذاته، وأن المرأة التي كانت تنتقل بين مقاتل وآخر بسبب مقتل الزوج أو لأسباب أخرى تنجب من كل الرجال الذين يتزوّجون بها، فالدور التربوي المدجّج بالعقيدة القتالية، والنزعة الإقصائية الكارهة للحياة وللآخرين، هي أول مبادئ النهج المؤسس لهذا الفكر.
الإيرلندية ليزا سميث، المجنّدة سابقا في سلاح الجو الإيرلندي، والتي يقول عنها وزير الدفاع السابق إنها كانت محبوبة، نموذج من النساء اللواتي جُندن لصالح التنظيم، وتمت عودتها إلى وطنها إيرلندا أخيرا، وهي في الثامنة والثلاثين، أي إنها عندما التحقت بالتنظيم في 2015 كانت في الرابعة والثلاثين، فهل هو العمر الذي يبحث فيه الشخص عن معنى حياته؟ ربما سؤال الحياة لا يرتبط دائمًا بالعمر، ولكن في سن النضج يفترض أن الإنسان قد حصّل من المعرفة والخبرة في الحياة ما يكفيه لأن يكون قد عرف ما يريد من حياته، فهل كان الإسلام بالطريقة التي قدّمت إليها هو ما جعلها تقبض على معنى حياتها؟ يقول محاميها إنها جنّدت في مرحلة حساسة من حياتها، حيث كانت امرأة ضعيفة، ولديها ميول انتحارية، وإن الشخص الذي جنّدها استغل حالة الضعف المسيطرة عليها. وفي 2014 في أثناء رحلتها من أجل البحث عن معنى لحياتها، أخبرها داعية دين إن "القرآن يُلزم المسلمين باتباع الخلافة التي أعلنها تنظيم الدولة الإسلامية".
النساء اللواتي التحقن بالتنظيم من الدول الأوروبية، خصوصا غير المنحدرات من جنسيات سابقة، أو ينتمين إلى جيل ثان أو ثالث من المهاجرين، مثل ليزا سميث، هؤلاء ولدن ونشأن في مجتمعاتٍ فكرة الحرية راسخة إلى حد بعيد في ثقافاتها. وعندما ينتمين إلى عقيدة أخرى، فإنهن يعتنقنها بإرادة حرّة وسابق تصميم، بدون إكراه، فالثقافة المجتمعية والدستور والقوانين كلها تكفل حرية المعتقد، ولذلك فإن إيمانهن بالدور الذي قمن به أو الموكل إليهن راسخ، فهو مرتبط بالمعتقد الذي اعتنقنه أخيرا، ولم يعشن التجربة الروحية للدين الإسلامي، مثلما لا يعرفن عن الإسلام إلا الصورة التي قدّمها إليهن دعاة التنظيم، أو دعاة النهج المتطرّف العنيف المتكئ على الدين.
بينما نرى أن قصصًا عديدة عن نساءٍ ينحدرن من مجتمعاتٍ إسلامية أو عربية محتجزاتٍ في مخيم الهول أجريت معهن لقاءاتٌ من وسائل إعلام عديدة، تتقاطع في حالة واحدة هي الزواج، هناك أمهاتٌ أتين ببناتهن من أجل تزويجهن، تحت سحر فكرة دولة الخلافة، خصوصا أنهن أتين من بلدان تعاني شعوبها من الظلم والقهر والقمع والاستبداد الديني والاجتماعي والسياسي، الشعور بالظلم مع تدّني مستوى الوعي والمعرفة ربما جعل من فكرة العدالة حلمًا يمكن أن يتحقّق في ظل دولة الخلافة. والمرأة في تلك المجتمعات ليست فقط مقيّدة بالصورة النمطية المباركة من السلطة الاجتماعية والسياسية والدينية، بل تعيش هذه الصورة وهذا الدور الذي يصنفها موضوعا لمتعة الرجل وأداة للإنجاب، وشرف العائلة والقبيلة، وهي سلعة للتبادل الاجتماعي في بازارات أحطّ من النخاسة أحيانًا.
الفارق بين النمطين من هؤلاء النساء المسلمات، عربيات أو غير عربيات، اللواتي ولدن ونشأن 
في بيئاتٍ إسلامية، وبين نساء ولدن ونشأن في مجتمعاتٍ رسخت تجاربها الديمقراطية ومبدأ الحريات بمختلف أشكالها والمساواة بدون تمييز، وحصّلت المرأة عمليًا مستوىً متقدّمًا من الحضور والأدوار الوظيفية في مختلف الميادين، وتطمح إلى المزيد، أن الفئة الأولى يمكن أن تتراجع، وتثوب إلى رشدها، فيما لو توفرت لها ظروفٌ أكثر إنسانية، فيما لو تجاوزت ظرفها الحياتي من فقر وكبت وعنف وتهميش، أو فيما لو تقطّعت سلاسل التبعية التي تجعلها كيانًا ملحقًا بالرجل، تستبطن أفكاره وعقيدته وسياسته وغيرها، إرضاء له باعتباره وليها وسيد نعمتها، بينما الفئة الأولى ربما تكون إعادة تأهيلها أعقد لإيمانها بالدور الذي جاءت إليه بإرادتها. وفي جميع الحالات، التطرّف وممارسة العنف بدافع العقيدة أمر خطير، فيما إذا استدرجت النساء إليه، وأصبح نهجًا وتمأسس. صحيح أن هناك في التاريخ حالات عديدة استخدمت فيه النساء في ممارسة العنف، بدوافع قومية أو غيرها، ولكن الأخطر هو العنف المدفوع بالعقيدة الدينية. لذلك تفتيت هذا الفكر الذي أصبح نهجًا لمنظماتٍ تفرض وجودها عالميًا، وتساهم بقوة في صنع الأحداث التاريخية في عصرنا الحالي، منذ حركة طالبان وتنظيم القاعدة، وما تفرع منها وبزّها في الوحشية، تفتيت هذا الفكر والتنظيمات المبنية عليه بات أمرًا ملحّا، فهو يبتلع حركات الشعوب المظلومة المقهورة الساعية نحو تحقيق ذاتها الإنسانية ويقتلها.