الغرب مدين للسوريين بالكثير

الغرب مدين للسوريين بالكثير

13 ديسمبر 2019
+ الخط -
منذ اندلاع الثورة السورية، وقفت الديمقراطيات الغربية مواقف نبيلة من الثورة. قطعت الحكومات الغربية علاقاتها مع حكومة النظام السوري في دمشق، واستقبلت أوروبا مئات ألوف اللاجئين، وقدمّت مليارات الدولارات للاجئين في تركيا ولبنان والأردن، ودعمت المجتمع المدني السوري الذي سدّ الفراغ الذي أحدثته الحكومة السورية عند انسحابها من أكثر من نصف مساحة سورية. وسيكون من النكران للجميل ألا نذكر ذلك، بيد أنه سيكون من ضيق الأفق أن نقف عند ذلك، فلا نتذكّر ونذكّر الغرب الديمقراطي أنه هو من ساهم بإيصال البلاد إلى ما هي عليه، في دعمه المتواصل دكتاتورَيْ سورية، الراحل والحالي. 
بعد الحرب العالمية الثانية، كانت رؤى الغرب لدول منطقة الشرق الأوسط تستند إلى قاعدتين: إسرائيل والصراع ضدّ الاتحاد السوفييتي. وقد عرف حافظ الأسد هذه الحقيقة، واستغلّها لصالحه بأحسن ما يستطيع. وبينما كان يأخذ الدعم السياسي والعسكري من الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية في تلك الحقبة، كان يستمد شرعيته من الحكومات الغربية، وينهب منها المساعدات المادية التي كانت تصب في جيبه، في معظمها على الأقل.
وبعد حرب تشرين (1973)، جرى الاتفاق غير المكتوب بين حافظ الأسد والحكومات الغربية، حصل الأسد بموجبه على ضمان استمرار حكمه المطلق، وإطلاق يده للتصرف في لبنان على 
هواه، في مقابل ألا يطلق رصاصة واحدة على إسرائيل. وعلى الرغم من أن الرجل قد لحس وعوده مئات المرّات، فإنه حافَظ على هذا الوعد، وتابع ابنه الحفاظ عليه. وبينما تسرح إسرائيل في أنحاء سورية كافّة، لا يردّ جيش الأسد ولو بطلقة مضادّة واحدة صوب الجنوب. وقد وصف الرئيس الأميركي السابق، جيمي كارتر، حافظ الأسد، بعد أن التقى فيه في جنيف، بأنه "رئيس قوي ومعتدل"، مضيفا في مكان آخر "لا حلّ في الشرق الأوسط من دون الاعتراف بوزن الرئيس الأسد ودور بلاده الجوهري". واعترفت رئيسة وزراء بريطانيا السابقة، مارغريت تاتشر، بأن "الوفاق لا يتحقق في لبنان إلا بتقدير وزن الرئيس الأسد والتعاون مع سورية". أما فرنسا فأنقذت الدكتاتور السوري وابنه عدّة مرات. في منتصف الثمانينات، طار الرئيس الفرنسي الاشتراكي وقتها، فرانسوا ميتران، إلى دمشق لمقابلة حافظ الأسد، على الرغم من تقارير أمنية فرنسية كانت تؤكّد أن الأسد كان وراء الهجمات الإرهابية وقتها على المصالح الفرنسية. وقتها، كان الأسد مخنوقا بشكل شبه كامل من الحصار الغربي عليه، إثر فضيحة نزار الهنداوي الذي حاول تفجير طائرة إسرائيلية في مطار هيثرو في لندن، وقد اعترف الهنداوي بأنه كان التقى في دمشق مدير مخابرات القوة الجوية اللواء، محمد الخولي، الذي أمره بوضع قنبلة في طائرة "إل عال" في لندن.
وسيكرّر التاريخ نفسه بعد عقدين، عندما سيدعو الرئيس الفرنسي (اليميني هذه المرّة) نيكولا ساركوزي بشار الأسد إلى باريس، ليحضر احتفالات عيد 14 يوليو/ تموز، بعد الحصار الخانق الذي تعرّض له الأخير إثر اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق، رفيق الحريري. وبدلا من تسريع المحاكمة الدولية، كانت الإدارة الأميركية تريد أن تنتهي من كابوس احتلال العراق، فراحت ترشو بشار الأسد الذي كان يدرّب الجهاديين في معسكراتٍ يشرف عليها داعية المخابرات السورية محمد قول آغاسي (أبو القعقاع)، ويرسلهم إلى العراق لمقاتلة الجنود الأميركيين والعراقيين، وليفجروا بيوت العراقيين وكنائسهم ومساجدهم. ويومها، كما يقول سام داغر في كتابه "الأسد أو نحرق البلد"، سينتحي رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميريكي آنذاك، جون كيري، بالسفير الفرنسي في دمشق آنذاك، ويهمس في أذنه: "بشار رجل يمكننا العمل معه، لأنه أعطى كلمته بأنه سيوقف دعم المتسللين والمجموعات الإرهابية إلى العراق". ببساطة، تعامل بشار مع الأميركيين بلغة البلطجة، ورضخ الأميركيون لبلطجته، وقتذاك، تماما كما سيخضع للبلطجة نفسها الرئيس باراك أوباما، حين سيرسم خطوطا حمراء، ينظر إليها بشار بازدراء ويمحوها.
في نهاية السبعينات ومطلع الثمانينات، حين تحرّك الشارع السوري والنقابات ضدّ نظام الأسد، كانت الولايات المتحدة هي من ساندته ومنعته من الانهيار. وفي برقيةٍ منها إلى وزارة الخارجية في واشنطن، قالت السفارة الأميركية في دمشق إن أي إضعاف لمكانته سيكون سيئا للمصالح الأميركية، بما في ذلك السلام العربي - الإسرائيلي وتأمين مصادر النفط، وأضافت "لقد بتنا معتادين على قيادة الرئيس الأسد والاستقرار الذي يمثّله، وبينما لدينا اختلافات مع الأسد، وخصوصا ما يتعلق بالتكتيكات، فإن كلا من سياساته كانت تصب في مصلحتنا ومصلحة الاستقرار في المنطقة".
عشية انهيار الاتحاد السوفييتي، نقل حافظ الأسد البندقية من كتف إلى كتف، وانضمّ إلى التحالف 
الدولي لإخراج صدّام حسين من الكويت، فكافأه الغرب ودول الخليج الكبرى بمليارات الدولارات التي أدّت إلى انفتاح جزئي في السوق، جعل صعود حيتان المال، من أمثال رامي مخلوف وشركاه، ممكنا. وفي التسعينات، كان الرئيس الأميركي، بيل كلينتون، يجاهد لكي يذْكره التاريخ بأنه الرجل الذي حلّ مشكلة الصراع العربي الإسرائيلي، فزار الأسد في دمشق والتقاه في جنيف قبيل تسليم مفاتيح البيت الأبيض لخليفته جورج بوش، ولكن الأسد الذي كان قد حصل على ما أراده من شرعية وإطلاق يد في سورية ولبنان ورفع بلاده من قائمة الدول الراعية للإرهاب وتقبّل فكرة التوريث، قلب لكلينتون ظهر المجنّ، ولكن فقط بعد أن كال له كلينتون وكبار المسؤولين في عهده التقريظ والمديح. وبينما كان جثمان حافظ الأسد مسجّى في قصر الشعب في دمشق، كانت مادلين أولبرايت، وزيرة خارجية الرئيس كلينتون، تصف الرئيس الجديد بأنه "متوازن ومستعد لتولي مهامه. لقد تشجّعتُ كثيرا برغبته لمتابعة خطوات والده". لن تشعر أولبرايت بالخجل وهي تعتبر خطوات حافظ الأسد جديرةً بأن يحتذي بها الابن.
تولّى بشار الأسد الحكم قبل أشهر فقط من تولي جورج بوش الابن الحكم في واشنطن. وبعد هجمات "11 سبتمبر" في العام 2001، صار بشار شريكا للإدارة الأميركية في مكافحة الإرهاب. مرّة أخرى، يستخدم بشار سلاح البلطجة، يخلق المجموعات الإرهابية ثم يقبض ثمن تسليمها أو القضاء عليها. وستطير أول رئيسة امرأة لمجلس النواب الأميركي، نانسي بيلوسي، بعد سنوات لتناول الغداء مع بشار وزوجته الجميلة أسماء الأسد، بينما ستتهافت وسائل الإعلام الغربية على إجراء لقاءات مع الزوجين الشابين، اللذين "يعملان على إصلاح سورية"، وستصوّر الثنائي الشاب إصلاحيين يعملان على الرفع من شأن سورية.
بعد انطلاقة الانتفاضة السورية، ستتعامل الإدارة الأميركية في عهدي أوباما وترامب على طريقة 
النعامة، فتدفن رأسها في التراب، وهي تسمع أصوات القصف بالصواريخ والطائرات والبراميل المتفجّرة. وحين يرشو بشار الرئيس أوباما بتسليمه بعض مخزونه من الأسلحة الكيماوية التي كان ينفي امتلاكه لها، نسي أوباما كل التزام له باعتبار بلاده قائدة العالم الحرّ فيما يخصّ قضايا حقوق الإنسان في العالم. وسيترك أوباما لروسيا ملء الحرية لتفعل ما تشاء، وهو ما سيتابعه الرئيس ترامب بلاسياسته، وبتقلّبه وفق مزاجه الصباحي.
ما سبق أمثلة فقط عن الرعاية التي قدّمتها الحكومات الغربية الديمقراطية لدعم النظام القمعي الفاشي في دمشق وتنميته. ومن هنا، وعلى الرغم من اعترافنا بفضل الغرب في السنوات التسع الأخيرة، من حقنا، نحن السوريين، أن نطلب منه بداية أن يعلن عن مسؤوليته في ما آلت إليه الأمور من تردّ مريع في سورية. على الغرب أن يعي الدور الذي لعبه في تعزيز مكانة الأسدين وقوّتهما، ويجب أن يدرك أنه ضحّى كثيرا بمُثله ومبادئه في مجال حقوق الإنسان والديمقراطية على مذبح مصالحه الضيقة ومصالح إسرائيل الأكثر ضيقا. وعليه بالتالي أن يدعم السوريين في صراعهم ضدّ أسوأ شكل من الفاشية والدكتاتورية بعد الحرب العالمية الثانية، ليس منّة وكرما منه، بل تصحيحا لخطأ أسهم هو في إيجاده، بدعمه غير المحدود للأسديْن، اتقاء لشرّهما.
8B0BB846-CF42-461B-9863-1B914FC64782
8B0BB846-CF42-461B-9863-1B914FC64782
وائل السواح

باحث سوري في قضايا المجتمع المدني وحقوق الإنسان. عضو في المكتب التنفيذي لرابطة الكتاب السوريين ورئيس تحرير موقع "سيريان أبزرفر" ومسؤول تحرير في موقع الأوان.

وائل السواح