جيل هذه الثورة وجيل محترفيها من المتكلّمين

جيل هذه الثورة وجيل محترفيها من المتكلّمين

12 ديسمبر 2019
+ الخط -
منذ اللحظة الأولى لاندلاع الثورة في لبنان، انطلقت النصائح تُسدى إليها. ومع أن الأوائل من بين الناصحين لم يكونوا من صنّاعها، إنما ملتحقون بها على وجه السرعة. أصلاً، الثوار أنفسهم، الذين خاضوا أولى التظاهرات الاحتجاجية على تعريفة الـ "واتساب" في تلك الليلة لم يكونوا يدركون أنهم يشعلون شرارتها. والملتحقون بها من يساريين أكثر من يمينيين، سابقين أو راهنين، هم في مقدمة الناصحين: يجب أن يكون لكم قائد، أو قيادة واحدة. يجب أن يكون لكم برنامج، من المستحَب أن يكون مفصلاً؛ ومعه تحدّدون الأولويات. يجب أن يكون لكم فعل فكري مخطَّط و"مبرْمج" (نعم استُخدِم التعبير)، أيديولوجيا كان أو عقيدة. يجب أن تكون لكم أطر وتنظيمات ومواقع، وأحياناً أحزاب. إلى ما هنالك من الوصفات المألوفة لدى كبار المتكلّمين في الثورات. 
كان أهل الثورة يقرأون تلك النصائح، أو لا يقرأونها. ولكنهم في النهاية كانوا يخرجون إلى الساحات بما يدهش ويفاجئ. بمخيلتهم وحيويتهم وقدرتهم على حشد مئات الآلاف من المواطنين في التظاهرات، وفي الاعتصامات. وعلى امتداد أسابيع، منذ ولادة الثورة، يثبتون لحظتهم التأسيسية الأولى، لحظة الاستيقاظ من غيبوبة طائفية، بدت منذورة للخلود عقودا، فكان الهجوم المعاكس للسلطة على اللبنانيين، عبر قطع أرزاقهم، في تواطؤ سافر بينها وبين المصرف. في صمتٍ شيطانيٍّ حيال كل مظهر من مظاهر الانهيار الاقتصادي؛ بغرض تركيع اللبنانيين الثائرين عليها. وقد نجح الاثنان، السلطة والمصرف، إلى حدّ بعيد، فالتركيع موجِع، والناس، بعد كمْ يوم، لن تجد ربما ما تأكله، فكانت الكبوة النسبية للثورة قياساً إلى زخمها الأول، فعادت على الأثر
"النصائح"، بما يضاهي هذا الزخم. القلق على الثورة، الحرص على ثمارها، الوفاء لشهدائها... كلها أسباب تدفع إلى تفعيل النصائح نفسها، مع إضافة جديدة عليها، هي العنف: يجب استخدام العنف، كيف يجب استخدامه، بشكل منظَّم، على شكل خلايا، أو وحَدات. وأجوبة عن مآلات العنف، عن الفوضى، عن القوة الميدانية، عن أن التاريخ الذي لا يولد إلا من "رحم" العنف، عن "حتمية" العنف، عن عنف الثورة وعنف السلطة المضادّة، عن العنف بسلاح، أو من دونه، عن أن العنف يحتاج إلى تمويل، أو يموَّل من جيوبنا الفارغة، عن أن العنف يولّد العنف، عن تجربة العنف السوري.. إلخ.
كل هذه العاطفة الأبوية على الثورة ليست من دون مشروعية. صحيحٌ أن نقطة الثورة القوية، في لحظاتها الأولى، هي عفويتها. ولكن هذه الأخيرة تصبح نقطة ضعفها مع توالي مجرياتها. ولا يمكن لأهل الثورة بالتالي البقاء على لحظات عفويتهم الأولى. إنهم مهدّدون، ونحن كلنا مهدّدون. يحتاجون، ونحتاج كلنا إلى القوة؛ لكي لا نعود كما كنا عشية الثورة. حياة بلا معنى، في ظلال لصوص الطوائف. كراهية للنفس وللشعب الخانع الساكت المرتشي، وسلطة مزرية، بلهاء، تحترف ألوان القتل البطيء.
ولكن، من جهة أخرى، آخر من يحق له أن يبذل النصائح إلى هذه الثورة هم هؤلاء الناصحون بالذات؛ أصحاب التجارب السياسية الفاشلة، المقيمون في فشلهم، سواء الخارجون عن أحزابهم، وصاروا "شخصيات"، أو الباقون فيها، يقودون أنفاراً معدودين، فهؤلاء وأولئك مصابون بلوثة أحزابٍ لم تكن خيراً على لبنان؛ يجترّون "مراجعة" تجربتهم منذ سنوات، بما يفيض من الثبات في "الطليعة"، ومن "التمكّن" الفكري، المتزيّن بكلمتين رنّانتين أو أكثر؛ أو بتاريخهم "النضالي" المجيد. وهذا "جميلٌ" لا يتوقفون عن توسّله. ولكن الأهم ربما من كل تلك الإطلالات أن غالبية 
الناصحين ينتمون إلى جيل قديم، محبَط حزين. يقترب من نهاية عمره، ولا يستطيع أن يكوّن أفقاً أبعد من احتمال هذه النهاية. أي سنوات قليلة، بالأكثر عشرين، وبالأدنى عشر سنوات؛ يتخلّلهما الاعتلال. لا بل، قبل الثورة، كان ثمّة من يسعد باقتراب نهايته، لشدّة ما بدت له الأفق سوداء.
ماذا يفعل هؤلاء؟ يُغدقون النصائح نفسها، بعباراتٍ وصيغ يريدونها مبتكرة، جذّابة؛ يعلمون بينهم وبين أنفسهم أن ما يدلون به إنما هو تكرار. تكرار ثلاثية القائد والعقيدة والبرنامج، شروطا لإنجاح الثورة، من دون أن ينتبهوا إلى فشل "ثورتهم" هم، كانت ماشيةً على هذه الثلاثية المقدّسة. بل هذا المَمْشى لم يمنعها من الانشقاقات، والاحتراب في ما بينها، وعجز في التنسيق، حتى في أحلك المعارك، فضلاً عن أحقادٍ شخصية، وخيباتٍ لا تنتهي، وكله متوّج بفشل ذريع.. وبهذه النظرة إلى الثورة، وعلى الرغم من اندلاع الثورة خارج إرادتهم وتوقّعهم وتنظيمهم ومؤتمراتهم وشخصياتهم الـ"المجدِّدة".. وعلى الرغم من "اختصاصهم" بالثورات، وحبهم لها، واحترافهم مفاهيمها "العميقة"، أو ربما بسبب شدة حبهم لها، لم ينتبهوا إلى قانون الثورة، كل ثورة: أن الثوريين ليسوا هم من يصنعون الثورات، إنما الثورات نفسها هي التي تصنع الثوريين. وهذه تجربةٌ يستحق ويستطيع أن يخوضها أبناء الجيل الجديد وحده، من الذين لم يتجاوزوا الأربعين. وهذا القانون ينطبق عليهم وحدهم. هم ليسوا ثوّاراً بالوراثة، أو بالعقيدة الثورية، الموروثة أيضاً، والمعتزّة برياديتها؛ أو باجترار كلمة "الثورة" كيفما اتفق، أو بامتهان الثورة، جاها وامتيازات (ضئيلة) واعترافا بالقيمة الشخصية، أو بادّعاء الثورية يميناً شمالاً، أو بالتكبّر الاخلاقي على غيرهم، المحرومين من لقب "مناضلين". هؤلاء لم يصنعوا الثورة. واكبوها، تسلّقوا على 
غصونها، شاركوا في تظاهراتها، بثّوا رفاقهم في صفوفها. ولكنهم لم يصنعوا الثورة. فيما الشباب الذين أشعلوا الثورة لم يكونوا على بيّنةٍ من أمر فعلتهم هذه؛ من أنهم يصنعونها. وهؤلاء هم أهل الثورة، وهم الآن في طور تكوّن ثورتهم، تبلورها، على أيديهم وبتجربتهم الخاصة.
لماذا هذا الجيل بالذات؟ لأن الثورة سوف تطول. ولن تؤتي ثمارها في القريب العاجل. والشباب أمامهم عشرات السنوات لكي يُنضجوا ثورتهم بعد المرور بكل أنواع التجارب التي سترهف مخيلتهم وتشحذ طاقاتهم. أمامهم ما يكفي من الوقت ليخرجوا، وقد ابتدعوا طرقا وأطرا وأفكارا جديدة هي من صلْب تجربتهم المباشرة.
أيضاً، لماذا هذا الجيل بالذات؟ لأنهم جُدُد، على نداوتهم الأولى. لم يُفسدهم النظام، كما أفسد آباءهم وأجدادهم. لم يحتكّوا بالفساد، لم يضطرّوا إلى التعامل معه يوميا، أو يتعايشوا. لم يُبتزّوا به، كما حصل مع الغالبية العظمى من الذين تجاوزوا الآن الأربعين وما فوق. إنهم أبرياء من الرياء والمجاملة والتفاهمات والكواليسية، وكل أشكال "التوافق" والفساد الحزبي.
اتركوهم يصنعون تجربتهم. انظروا إلى بساطتهم بصفتها الخام، الفطرية، الصادقة، وإلى عظمتهم، وقد أزاحوا جبالاً عن صدورنا. اعفوهم من أفلامكم البائخة، المشْبعة بالرطوبة. دعوا الأخضر البرّي يزهر في روحهم.