المعارضة السورية وتوظيف اللجنة الدستورية

المعارضة السورية وتوظيف اللجنة الدستورية

02 ديسمبر 2019
+ الخط -
في ظل الاستعصاء السياسي الذي يخيّم على مسار جنيف ومسار الحل السياسي بشكل عام في سورية، وبعدما تبين أن موافقة نظام الأسد على المشاركة في اللجنة الدستورية، بعد تعطيل دام عاماً ونصف العام تقريباً، لم تكن سوى مناورة، يطرح السؤال القديم الجديد على جدول أعمال المعارضة السورية، ما هو الخيار الأكثر واقعيةً في التعامل مع الوضع الراهن، سيما مسألة المشاركة في اللجنة الدستورية؟
لم تكن خيارات المعارضة السورية يوماً مريحة، ولم تختر، في معظم المحطات، المسار الذي سلكته أو الخطوات التي أقدمت عليها، نظراً إلى قوة العامل الخارجي في إدارة المشهد السوري في جميع مستوياته السياسية والعسكرية والإنسانية، وتنوع الفاعلين الخارجيين واختلافاتهم، بالإضافة إلى تشتت الشارع السوري المنتفض منذ العام الأول لاندلاع الثورة، وعجزه عن إفراز قيادة حقيقية موحدة تمثله.
إلا أنه، وعلى الرغم من كل شيء، لا يمكن لأحد الزعم بأن هذه المعارضة أحسنت استخدام الأدوات السياسية التي امتلكتها في بعض الأحيان، ودورها "الوظيفي" المهم للفاعلين الكبار، والذي تمتعت به معظم الوقت، من دون أن تدرك هي نفسها حجم أهميته، وإمكانية استخدامه في فرض بعض خياراتها، أو على الأقل إعادة صياغة ما يعرض عليها بطريقةٍ تنسجم أكثر مع أهدافها، أو أهداف الشارع الذي تمثله.
يعرّف دعاة الواقعية السياسية على وتر الفرص السانحة التي لن تتكرّر، وينادون بالأخذ بالفتات الذي جادت به الدول الداعمة، عوضاً عن التكبّر على هذه النعمة التي "إذا ما فرّت قلما 
ترجع"، خصوصاً إذا ما قيّمنا الواقع السياسي والعسكري الذي لا يصبّ في مصلحة المعارضة على الإطلاق، وهي حجةٌ، للأمانة، لا تخلو من وجاهةٍ، وليس الخلاف في الواقع بشأن ضرورة عدم الأخذ بهذه الحجة وبذلك الفتات، بل حول كيفية توظيفه.
وقبل مناقشة كيف يمكن للمعارضة أن توظّف وضعها في اللجنة الدستورية، دعونا نتذكّر أن مسار تقزيم المعارضة وتوجيه الضربات لها، الواحدة تلو الأخرى، لم يبدأ في لحظة ضعفٍ ميدانيٍّ عسكري، بل في لحظة قوةٍ وسيطرةٍ وشرعيةٍ دوليةٍ ودعمٍ بالمال والعتاد، على علاته واشتراطاته المؤذية، فالمجلس الوطني غدا هدفاً للانتقادات الغربية، والدعوات السرية إلى إسقاطه بعد شهور فقط من تشكيله، وذلك انطلاقاً من دوائر القرار الغربي، وصولاً إلى تصريح وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، هيلاري كلينتون، التي دعت المجلس إلى كبح جنوح الثورة السورية نحو التطرّف، في تصريح شكّل علامة أولى على تراجع الالتزام الأميركي المعلن تجاه الثورة، وهو ما لم يكن التزاماً كلياً بطبيعة الحال، لكن أثره لا ينكر.
إسقاط المجلس الوطني تبعه تشكيل الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، بطلبٍ صريحٍ ومشروطٍ من الدول الداعمة، ثم تبعته عدة توسعات، أبرزها توسعة كتلة أحمد الجربا، بالتوازي مع إعادة تشكيل الخريطة العسكرية للفصائل المقاتلة على عدة مراحل، مع فتح الباب أمام مقاتلي جبهة النصرة بالتوسع على حساب الفصائل الثورية، مروراً بنشوء تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، والتخريب الهائل الذي ألحقه بالبنية الاجتماعية للمناطق الثائرة، وصولاً إلى ترك الفصائل الثورية لقمةً سائغةً في فم جبهة النصرة وتفريخاتها، بالتوازي مع تدخل روسي عنيف أمسك بزمام المبادرة، وأنقذ النظام في لحظةٍ كان سقوطه أقرب إلى الحقيقة من أي شيء آخر.
ولعل السؤال الأول الذي يتبادر إلى ذهن بعضهم: لماذا نلوم الخارج إذا كان الضعف نابعاً من داخلنا، والانهيار الذي حصل مستنداً إلى عللنا أكثر من ظروفنا؟ هذا السؤال الذي نحتاج أن نسأله ونجيب عليه دوماً، وكجزء من الإجابة عليه، وتحديداً على المستوى السياسي، ينبغي أن نسأل: كيف تعاملت المعارضة، بهياكلها السياسية، مع محطات الخذلان الدولي آنفة الذكر؟ وبعبارة أخرى: إذا كانت القوى الخارجية الفاعلة حريصةً في معظم تلك المحطات على تحويل مسار الأمور كما يحلو لها، وإجبار المعارضة على سلوك طرقٍ محدّدة مرسومة سلفاً، لماذا لم 
تستعمل هذه المعارضة أهمية دورها ورقةً في مساومة تلك القوى؟
ليس المقصود من المساومة هو التفاوض الساذج مع مندوبي الدول ومبعوثيها الدبلوماسيين في أروقة الفنادق، وعلى هامش الاجتماعات الكبرى، فهذه الدول لو كانت تنظر باحترام إلى مصالح المعارضة ومصالح الشارع الذي تمثله، لما أكرهتها على ما لا يتوافق مع تطلعات هذا الشارع، فالمساومة هنا لا تكون بالكلام، بل بالخطوات الفعلية. على سبيل المثال، كان في الوسع، في عدة مناسبات، إعلان تجميد عمل "الائتلاف"، أو تعليق عمله، وتجميد جدول الأعمال لكل اللقاءات والزيارات المقرّرة. ومن يتوهمون أنهم دعاة الواقعية السياسية يحلو لهم أن يصفوا هذه الخيارات بـ"الحرد السياسي"، ويزعمون أنه غير فعال، وأن القوى الكبرى لا يمكن ليّ ذراعها، وهذا كله غير صحيح، وأثبتت التجربة عكس ذلك كله.
الواقعية السياسية في هذا الموضع بالتحديد تكمن في تقييم طبيعة العلاقة بين الكيان المعارض والقوى الكبرى الفاعلة، وقراءة المشهد بدقة وهدوء. ذلك كفيلٌ بأن يكشف للسياسي الواقعي أن القوى الكبرى التي "لا يمكن ليّ ذراعها" تنظر إلى كيانات المعارضة التي شكلتها على أنها أدوات وظيفية، تخدم مصالحها في موضعٍ معينٍ ولمرحلةٍ معينة، وإذا كانت لا تعتقد أن العلاقة بين الطرفين استراتيجية، فإنها على الأقل مهتمةٌ باستخدام هذه المعارضة فيما شكلت من أجله، وبالتالي، فإن التهديد بحلها وإعادتها إلى الصفر يجبر صانع القرار على المناورة، وتقديم تنازلات مهما كانت شكلية، لأنه هو الآخر يجري حساباته، ويعلم جيداً أن انعدام الكيان الذي تعمّد أن يصنعه ويوجهه إلى وجهةٍ ما سيجعل جهوده تذهب سدى، والتنازلات القليلة في هذه الحالة قد تكون أقل تكلفة.
من الأمثلة على نجاحها نسبياً، قرار الائتلاف الوطني عندما كان يرأسه الشيخ معاذ الخطيب عدم حضور مؤتمر روما لمؤتمر "أصدقاء سورية" عام 2013، احتجاجاً على الصمت الدولي إزاء المجازر التي كان يرتكبها الأسد في حلب بإطلاق الصواريخ على المدينة، وهو ما دعا وزير الخارجية الأميركي آنذاك، جون كيري، إلى الاتصال بالخطيب، ليخرج الأخير ويقول إن المعارضة تراجعت عن قرارها بعدما حصلت على تأكيدات من واشنطن ولندن بتقديم دعم "واضح ونوعي". وقال كيري: "أريد أن يعلم أصدقاؤنا داخل مجلس المعارضة السورية أننا لا نأتي إلى روما للتحدث فقط. نذهب إلى روما لاتخاذ قرار بشأن المراحل المقبلة".
لو كان الأمر لكيري شخصياً لوجد من تلك المقاطعة فرصةً لإعلان وفاة المعارضة، وبدء عملية التطبيع مع النظام، بالنظر إلى مسار تصريحاته وخطواته اللاحقة. ولكن المرحلة والاستثمار الأميركي بكيان المعارضة آنذاك فرضا عليه تنازلاً لنقل شكلياً، على الرغم من أن المساعدات الإنسانية تضاعفت بعد ذلك بالفعل، لكن العبرة في الموقف أن إدراك المعارضة، 
في لحظةٍ نادرة، أهمية حضورها في السياق الذي تريده واشنطن، واستعماله في ابتزازها، وعلى الأقل لم ينقلب بنتائج سلبية كما يحذر منه بعضهم.
نعم، فقدت اليوم المعارضة، ممثلة بكيانها الرئيسي الائتلاف السوري، معظم أهميتها للأطراف الدولية، منذ تشكيل اللجنة العليا للمفاوضات، وهذه فقدت صلاحيتها الدولية هي الأخرى، بعد تشكيل اللجنة الدستورية. ولكن لماذا علينا أن ننتظر الاختراع الجديد الذي لم يئن أوانه بعد، ليحل محل هذه اللجنة؟ لماذا لا يتم استخدام وظيفتها وأهميتها المرحلية لبعض الأطراف، ليس فقط واشنطن، بل دول تفاهمات أستانة أيضاً، وذلك بعد أن ظهر للجميع أن النظام هو الطرف المعطّل لعملها، لفرض جدول أعمال المعارضة، أو ربما فرض وقف حقيقي وشامل لإطلاق النار، وقصف النظام المستمر وغارات الطائرات الروسية المتواصلة ضد أهلنا في إدلب؟ أليس هذا واقعيةً حركيةً تقرأ المشهد جيداً، وتستفيد من الهوامش المتاحة أم أن الواقعية تعني فقط السير خلف الدول معصوبي العينين؟
CCC1F875-8A4B-471C-BAC7-8D015367F189
CCC1F875-8A4B-471C-BAC7-8D015367F189
إبراهيم العلبي
إبراهيم العلبي