هل ينقلب الإناءُ على إيران؟

هل ينقلب الإناءُ على إيران؟

21 نوفمبر 2019
+ الخط -
على الرغم من أن الحراك الإيراني الحالي ليس الأول منذ قيام الجمهورية الإسلامية 1979، إلا أن وقعه على نظام الملالي يبدو مختلفا، بسبب سياقاته الإقليمية غير المسبوقة، سيما في ما يتعلق بتزامنه مع الحراكين، العراقي واللبناني. ولذلك، يصعب النظر إليه بعيدا عن شبكة النفوذ الإيراني المتشعبة في المنطقة.
يُمثّل هذا الحراك، على أهميته الداخلية، نقطة تحوّل في المشهد الإقليمي قد يكون لها ما بعدها. فلم يكن خروج طيف واسع من المجتمع الإيراني إلى الشارع احتجاجا، فقط، على قرار رفع أسعار البنزين وتقنين توزيعه، بقدر ما كان احتجاجا، أيضا، على سوء الأحوال المعيشية والاجتماعية وتبذير موارد البلاد في أكثر من بؤرة توتر في المنطقة، ما يعني أن تكاليف النفوذ الإيراني باتت جد مرتفعة على الصعيد الداخلي، وبالتالي فاستمرارُ إيران في نهج سياسة التمدد الطائفي والمذهبي دون اعتبارٍ لتداعياتها الاجتماعية والاقتصادية الداخلية قد يجعل الإناء ينقلب عليها.
عمل النظام الإيراني، منذ 1979، على تصدير مبادئ الثورة الإسلامية ضمن رؤية استراتيجيةٍ تنوعت طرائقُ تنزيلها حسب التحولات التي عرفتها المنطقة، فاستفاد من حالة الانكفاء العربي، خصوصا بعد الاحتلال الأميركي للعراق 2003، في نزوعٍ نحو إعادة تحديد دوره عبر تحالفه مع أنظمة وتنظيمات سياسية وعسكرية شكلت، في مجملها، حزاما لتعزيز نفوذه الإقليمي.
وجسّد اندلاعُ ثورات الربيع العربي المطالبة بالحرية والديمقراطية والكرامة والعدالة الاجتماعية تحدّيا بالنسبة له، سيما بعد أن انتقلت عدواها إلى سورية التي تُشكل بالنسبة له، إلى جانب حزب الله في لبنان، عمقا استراتيجيا. ولكن إجهاض معظم هذه الثروات سمح له باستعادة المبادرة وامتلاك أوراق جديدة للمساومة في مواجهة خصومه، خصوصا بعد أن نزل بكل ثقله العسكري واللوجستي لمساندة نظام بشار الأسد وحزب الله اللبناني في حربهما ضد المعارضة السورية. ومع توسع قاعدة التنظيمات السياسية والعسكرية المؤيدة له في المنطقة، كانت التكاليف السياسية والاقتصادية والمالية لنفوذه ترتفع أكثر وأكثر.
اعتقد هذا النظام أن الوضع الداخلي سيبقى في منأى عن هذه الفوضى الإقليمية التي أسهم بقسط غير يسير في تشكيل ملامحها، هذا في وقتٍ كانت فيه العقوبات الاقتصادية والمالية الأميركية تلقي بظلالها على الاقتصاد الإيراني الذي بات عاجزا عن الاستجابة للمطالب الاجتماعية والمعيشية للإيرانيين، سيما الأجيال الجديدة المنتمية للطبقة الوسطى، والتي لم تعش الزخم الثوري والأيديولوجي الذي واكب نشأة الجمهورية الإسلامية.
شعر الإيرانيون بأنهم يدفعون جزءا كبيرا من تكاليف النفوذ الإقليمي لبلادهم في المنطقة، وبدا لهم أن النظام لا يكترث للتداعيات الاجتماعية للعقوبات أمام إصراره على الاستمرار في تبني استراتيجية المواجهة إزاء خصومه. وجاءت الاحتجاجات العراقية واللبنانية، بكل زخمها الشعبي، لتخلط أوراق هذا النظام برفضها الاستمرار في العمل وفق نظام المحاصصة الطائفية، الأمر الذي يعني، ضمنيا، رفضا شعبيا قاطعا للوصاية المذهبية الإيرانية على العراق ولبنان.
لا تعكس الاحتجاجات الإيرانية نقمةَ فئاتٍ اجتماعيةٍ واسعة، فقط، بل تعبر، أيضا، عما يعتمل داخل المجتمع من مخاضٍ عسير يجد عناوينه الرئيسة في اتساع قاعدة رأيٍ عامٍ يرى في السياسة الإقليمية لحكومته تبذيرا ممنهجا لموارد كبيرة ما أحوج الشعب الإيراني إليها، في ظل تزايد نسب التضخم والفقر والبطالة وسوء الخدمات العامة واستشراء الفساد.
وتوحي ردة الفعل التي أبداها المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية، علي خامنئي، حيال هذه الاحتجاجات، وسقوطُ قتلى وجرحى في مدن إيرانية بأن النظام حريصٌ على إبقاء ملفاته الإقليمية بعيدة عن أي نقاش عمومي داخلي بشأن تكاليفها وتداعياتها على الداخل. ولذلك يعمل جاهدا على التخفيف من حدّة العقوبات الأميركية بالالتفاف عليها في محاولةٍ منه لتجنب ارتداداتها في الداخل من ناحية، والاستمرار في المساومة بالورقة النووية من ناحية أخرى.
تضع هذه الاحتجاجات النظام الإيراني أمام تحدّ غير مسبوق، فاستمرارها واتساع رقعتها قد يُضعفان تحكّمه في عناصر القوة وقدرتَه على توظيفها للتأثير في ما تشهده المنطقة من تحولاتٍ على أكثر من صعيد، وهو ما قد يفتح أمام خصومه المجال لإعادة جدولة أولوياتهم في التعاطي مع سياساته.