الأحمق والجبان والشرير

الأحمق والجبان والشرير

23 أكتوبر 2019
+ الخط -
قال الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، إن حال الأتراك والأكراد في الحرب الأخيرة بينهما كحال "ولدين صغيرين يلعبان في الساحة، عليك أن تتركهما يتقاتلان قليلا قبل أن تفصل بينهما". قال ذلك، وهو يهلّل للاتفاقية التي توصل إليها نائبه مايك بنس ووزير خارجيته مايك بومبيو مع الرئيس التركي، أردوغان، في أنقرة قبل أيام. 
لا يفتأ الرئيس ترامب يفاجئ متابعي أخباره بالنزول دركا آخر. وهو في الحدث السوري المستجد يشبه رجلا أشعل حريقا، ثم أوهم الناس أنه يطفئه، ثمّ طالبهم بتقديم الشكر له، من دون أن يتورّع عن إهانة أي أحد، بدون استثناء. وفي التاسع من شهر أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، أرسل رسالة إلى الرئيس أردوغان، تحسبها في البداية ملفّقة، هدّد فيها بلغةٍ أبعد ما تكون عن التهذيب والدبلوماسية بتدمير اقتصاد تركيا، ونصح أردوغان بأن يقوم بأشياء جيّدة، وإلا فـ "سوف ينظر إليك كشيطان إذا لم تحدث الأشياء الجيدة. لا تكن رجلا صلبا، لا تكن أحمق". وقال في رسالته: "أنت لا تريد أن تكون مسؤولاً عن ذبح الآلاف من الناس، وأنا لا أريد أن أكون مسؤولاً عن تدمير الاقتصاد التركي، وسأفعل! وكنت أعطيتك بالفعل عينة صغيرة (أثناء أزمة) بالقس برونسون".
ولا تقف إهانة ترامب الآخرين عند حدود الخارج، بل هي في الداخل أسوأ وأقسى، فهو يهين خصومه السياسيين (وحلفاءه أحيانا) بعباراتٍ شخصيةٍ تمسّ كرامتهم. ومن ضحاياها أخيرا
 رئيسة مجلس النواب الأميركي، نانسي بيلوسي، التي وصفها في وجهها قبل أيام بأنها سياسية من الدرجة الثالثة، حين اجتمعت معه لتناقشه في قراره سحب القوة الأميركية من سورية.
وقد وصف ترامب الاتفاق الذي جرى التوصّل إليه مع أنقرة بشأن شمال سورية بأنه "إنجاز عظيم، سينقذ ملايين الأرواح وحلفاءنا الأكراد". وأضاف، "حقّقنا كل ما يمكن أن نحلم به فيما يتعلق بالوضع شمالي سورية، الوضع الآن يجعل الجميع سعداء، ويمكننا الآن إعادة جنودنا إلى الوطن مع بقاء قدرتنا على احتواء تنظيم داعش". ووقْف إطلاق النار أمر حسن، لا شك، ولكن جوهر الاتفاق لا يزيد عن الإقرار بما في الأمر الواقع، ومساعدة تركيا على أن تحقّق ما تريده، بدون إراقة مزيد من الدماء. وهذا بالتأكيد ليس "كلّ ما يمكن أن نحلم به"، فبغض الطرف عما ورد في الاتفاق من كلام استعراضي للاستهلاك والدعاية، بما في ذلك عبارات مثل "دعم حياة الإنسان وحقوق الإنسان، وحماية المجتمعات الدينية والعرقية"، وأيضا "ضمان سلامة ورفاهية سكان جميع المراكز السكانية في المنطقة الآمنة التي تسيطر عليها القوات التركية (المنطقة الآمنة)،" وعدم التسبّب في "أي ضرر للمدنيين والبنية التحتية المدنية"، وأخيرا الالتزام "بالوحدة السياسية والسلامة الإقليمية لسورية والعملية السياسية التي تقودها الأمم المتحدة، والتي تهدف إلى إنهاء النزاع السوري وفقاً لقرار مجلس الأمن رقم 2254، بغض النظر عن ذلك كله، فإن جوهر القضية ليس هنا. جوهر القضية في نقطة أساسية واحدة، أن الاتفاقية ستجبر الكرد على الانسحاب من المناطق التي تحتلها تركيا الآن (أي المنطقة الآمنة)، وأن ترامب سوف يلغي العقوبات التي فرضها قبل أيام على تركيا.
سوف تجمع تركيا الأسلحة الثقيلة من وحدات حماية الشعب، وتعطل تحصيناتهم وجميع مواقع القتال الأخرى. وستنفذ القوات المسلحة التركية المنطقة الآمنة في المقام الأول، وسيزيد الجانبان تعاونهما في جميع أبعاد تنفيذه. في المقابل، سيوقف الجانب التركي عملية نبع السلام "مؤقتاً" للسماح بسحب وحدات حماية الشعب من المنطقة خلال 120 ساعة. وسيتم إيقاف العملية كليّاً عند الانتهاء من هذا الانسحاب. وقد بدت على الرئيس ترامب مظاهر بهجة غامرة، حين أعلن عن الاتفاق. وكعادته حين يكون سعيدا، ينسب كلّ فضل لنفسه، ويريد أن يكون الآخرون سعيدين معه، لذلك سمعناه يقول بصوت أشبه بالصراخ إن "الأكراد سعداء بالاتفاق".
حسنا، ليس الجميع، فمن أعرفهم من الكرد السوريين حزينون على ما آلت إليه الأمور، وهم وإن كانوا لا يكنّون كبير إعجاب بحزب الاتحاد الديمقراطي، الانفصالي، فإنهم غير سعيدين قطعا بتوغل الأتراك في مناطق يعتبرونها مناطقهم، وبحماية وضمان أميركيين. وقد يكون الجميع مرتاحا لوقف القتال، تماما كما يرتاح محمومٌ بخفض حرارته، حين يأخذ حبة أسبرين، ولكن ماذا عن المرض نفسه. وقلّة من الأميركيين سعداء بالاتفاق، وهم ثلّة المنافحين عن الرئيس ترامب الذين يصفّقون لكلّ ما يقوله أو يفعله. أغلبية الأميركيين في الواقع كانوا ضدّ الانسحاب الأميركي من المنطقة، باعتبار أنه "طعنة في الظهر" ومقدّمة لاستعادة "داعش" نفوذه.
يشبه الرئيس ترامب متنمّرا في مدرسة ابتدائية، لم يعتد أن يواجهه أحد، ثمّ حين يواجهه أحد 
التلامذة الحمقى، يُظهر جبنه الحقيقي. وعلى أي حال، وراء الأحمق والجبان، ثمّة شرّير يصفق سعادةً لكلّ ما يجري، وهو يرى كيف تؤول كلّ الأمور إليه في النهاية. إنه رئيس النظام السوري الذي سارع إلى عقد اتفاقية حماية مع الكرد، وإرسال قواته إلى مناطق كانت قبل أيام محرّمة عليه على الحدود السورية التركية. كما أنه استعاد (ومن ورائه حلفاؤه الروس والإيرانيون) السيطرة على الأراضي الشاسعة الغنية بالنفط على الحدود مع العراق. ومن شأن ذلك أن يخفّف من الضيق الذي يعانيه هذا النظام الشرير، وأن يوسع ما يسمّى "الهلال الشيعي" للنفوذ الإيراني، الممتد من طهران إلى لبنان، ما سيعيد خلط الأوراق حول مجمل الأمور تقريبا. ومع ذلك ثمّة سؤال: كيف استطاعت القوّات التركية اجتياح منطقة بعرض عشرات الكيلومترات وامتداد المئات في هذ الفترة القصيرة؟ حين أحاول أن أبحث عن جواب، لا أستطيع أن أمنع نفسي من مقارنة ذلك الانهيار السريع بصمود حلب الشرقية، أو حيّ الوعر في حمص، مثلا. ولا أعتقد أن الجواب على ذلك ممكن حاليا على الأقل.
8B0BB846-CF42-461B-9863-1B914FC64782
8B0BB846-CF42-461B-9863-1B914FC64782
وائل السواح

باحث سوري في قضايا المجتمع المدني وحقوق الإنسان. عضو في المكتب التنفيذي لرابطة الكتاب السوريين ورئيس تحرير موقع "سيريان أبزرفر" ومسؤول تحرير في موقع الأوان.

وائل السواح