أكراد في المكعّب

أكراد في المكعّب

20 أكتوبر 2019
+ الخط -
اختلفت سابقًا مع كاتبٍ أطلق مصطلحًا غريبًا على المليشيات الكردية، إبّان استعار أوار الحرب العراقية الإيرانية قبل ثلاثة عقود، وصفها فيه بأنها تشبه "المكعب السياسي"؛ للدلالة على هلاميّة تلك المليشيات، وتعدّد وجوهها بحسب اختلاف الظروف والمصالح. شعرت، آنذاك، بقسوة هذا المصطلح، وتحامل الكاتب على حركات ثوريّة تطرح نفسها ممثلًا آمال شعبٍ شاء حظه العاثر أن يتوزّع على أربع جغرافيات سياسية، قد تختلف على كل شيء، إلا على هدف استراتيجيّ واحد، قوامه منع الأكراد من إنشاء دولتهم الخاصة. وأعني بالجغرافيات الأربع العراق وإيران وسورية وتركيا. غير أنني لا أملك اليوم، وفي حمأة الحملة التي تجرّدها تركيا ضد مليشيا قوات سوريا الديمقراطية (قسد) الكردية في الشمال السوري، إلا أن أشيد بدقّة هذا المصطلح في وصف المتاهة السياسية التي وضعتنا فيها المليشيات الكردية، على اختلاف جغرافياتها الأربع.
تبدأ المتاهة، أولًا، من غرابة التحالفات التي تعقدها تلك المليشيات مع الدول الأربع؛ لتحقيق أهدافها، ففي الحرب العراقية الإيرانية، كان ثمّة تحالف وتواطؤ بين مليشيات الكرد العراقية وإيران ضد العراق وجيشه، على الرغم من المجازر التي ترتكبها إيران ضدّ أكرادها. وفي الحالة السورية التركية، كان نظام حافظ الأسد يدعم حزب العمال الكردستاني المناوئ لتركيا، في وقت يضيّق الخناق على الأكراد السوريين ويزجّهم في السجون.
باختصار، ارتضت المليشيات الكردية لنفسها أن تكون محض أدواتٍ بيد اللاعبين الكبار من الدول الأربع، مراهنة دومًا على انتصار الخصوم ضد بلادها الأمّ، لتحقيق غايتها بإنشاء دولتها المشتهاة؛ أي أنها قبلت على نفسها أن تؤدّي أدوار الخيانة العظمى لدولها وشعوبها، وأفدحها التحالف مع إسرائيل أحيانًا، على قاعدة أن الغاية تبرّر الوسيلة، وهي تعلم جيدًا أنه حتى بانتصار الخصوم لن تتحقق لها تلك الغاية.
الأنكى من هذا وذاك أن تلك المليشيات لم تكن، أبدًا، على وفاقٍ في ما بينها، ولا تقيم وزنًا لكرديّة الآخر من بني جنسها إذا تعارضت المصالح، ففي مستهلّ العدوان الأميركي على العراق واحتلاله، تواطأ حزبان كرديّان متحالفان مع دول العدوان ضدّ حزبٍ "شقيق" آخر لم تكن أميركا راضيةً عنه، وسهّلا لها ضربه وإبادة مقاتليه عن بكرة أبيهم. وينسحب الأمر على العلاقة بين المليشيات الكردية العراقية والتركية، ففي حادثةٍ مماثلةٍ، حين حاول مقاتلون من حزب العمال الكردي في تركيّا الفرار إلى الأراضي العراقية، هربًا من قصف الطائرات والمدافع التركية، استقبلهم "أشقاؤهم" بالرصاص، وأجبروهم على العودة إلى الجحيم، خوفًا من ردّة الفعل التركية ضدهم، فكيف يستقيم لمليشياتٍ متنازعة في ما بينها، ويمكر بعضها لبعض، أن تقيم دولةً يوما؟
قلت إنني وجدت نفسي في هذه المتاهة الكردية، في خضمّ الحملة التركية المجرّدة حاليًّا ضدّ "قسد"، مستحضرًا معضلة ذلك الرجل الذي يرمي بيوت الجيران بالحجارة، من دون أن يعي أن بيته مبنيٌّ من زجاج، بدليل أن دول الجوار التركي تعيب على جارتها دفاعها عن أمنها القومي ضد الانفصاليين الأكراد، فيما تمارس هي ما هو أشدّ وأبلى بحق الأقليات الكردية في بلادها، فكم من حملاتٍ عسكريةٍ جرّدتها تلك الدول، تحت شعارات "فرض الطاعة"، و"التأديب"، لمحاربة المتمرّدين الأكراد. وهو ما يدفعني إلى التساؤل بأي حق، إذن، تذرف تلك الدول دموع التماسيح على مليشيات كردية واضحة الأهداف والغايات في الشمال السوري، تسعى إلى بناء كيانٍ سياسيّ خاص بها، مستغلةً فرصة ضعف الدولة الأمّ، وعجزها عن بسط سيطرتها التامّة على أرضها.
عمومًا، أعلم، ولا أحبّذ أن تكون "الحرب خدعة"، وأدرك أننا لم نعد في زمن شهامة الفرسان الذين لا يقبلون طعن خصومهم من الخلف، غير أنني لا أحترم مقاتلين يستغلّون جراح دولهم التي تحتضنهم، ومصائب شعوبهم وكوارثهم، لإعانة الغزاة عليهم، حتى ولو كانت الهدية المنتظرة "دولة" بأكملها. أمّا "المكعّب السياسي" الذي لم يستهوني قبل ثلاثة عقود لوصف المليشيات الكردية، فأخشى أنه أصبح أزيد من مثمّن، مع إيماني المطلق بأن الشعب الكرديّ العريق سينبذ عما قريب تلك المليشيات التي لا تمثل غير مصالح الغزاة والصهاينة والطامعين بهذه الأمة.
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.