عمّار.. كفيفٌ لامس الحسن في الحنجرة؟

عمّار.. كفيفٌ لامس الحسن في الحنجرة؟

10 يناير 2019
+ الخط -
يفصلني عن بيت عمّار الشريعي سور سجن والده (بالسراية)، ذلك السور الذي استغله فيما بعد دعاة الناصرية، في كل بلدان الصعيد الفقيرة، لكراهية ملوك أسرة محمد علي، وصولا إلى حُمرة الخدود في كل وجوه مماليك الشراكسة حتى صنّاع الخير فيهم، تفصلني عن السور مخاوف المرويّات وما أكثرها، وإن كنت ألمح من خارج السور "قبة الشيخ عبد الملك".
تفصلني عن عمّار قاهرةٌ (ليست لمعز أبدا) تلعب بالفنان وتتلاعب به، وتجعله الخادم لأعياد النصر، وليس لأعياد الناس والحصاد والتعب والمظالم وصيْد المشتاقين والخبيز أمام الأفران كما فعل سيد درويش.
تفصلني عن عمّار الشريعي طبقةٌ لا أحبها (وهي الوسطى المغناجة عن قصد ومعرفة بالصيد)، نظير مهنة كواء الهندام للسلطة، وكواء الملابس، وطبخ القتل، وجعله مستساغا باسم الوطنية أو الوطن الأكبر، فأنا ابن فلاحين، وهو حفيد باشوات شراكسة، شاركوا في الحكم والدم والقتل والهروب من القلعة، ووقع عليهم أيضا بعض الظلم الذي لا توازي معشار الأمراض المتوطنة أو البلهارسيا أو ظلم الوسايا والملتزمين.
تفصلني عن عمّار الشريعي الذي لم أره في حياتي، إلا في التلفزيون في "قهوة براهيم" أمام المحكمة، وهو يعزف على آلته، والعرق يخرّ من رقبة وردة الجزائرية، ويصل حتى سرّتي، وأنا شاب أحلم.
يفصلني عن عمّار الشريعي أنه دخل كتّاب سيدنا "أبو صبرة"، فأجلسه مكرّما، وأنا هربت من شراسته في أول ربع ساعة.
تفصلني عن عمّار الشريعي حدائق أقربائه وأعمامه الواسعة والمغلقة، والتي زغردت فيها الثعابين، بعدما استطالت أشجار المانغو، وحجبت حتى رؤية شبابيكها، ذلك المانغو الذي كان لا يأكله الفلاحون إلا في أحلامهم. تفصلني عن عمّار الشريعي مئات الأفدنة، فهو في القلب من السلطة، حتى وإن لم يسعَ لها بقدميه، حتى وإن أحس بذلك أو لم يحس، وإن كان هو "عفريتا"، ويداعبها بمهارة الفنان عن بُعد.
تفصلني عنه أشياء لا تعد ولا تحصى، فهو لا يعرف "اللَّطْعة"، ولا مالَ جسدُه ما بين خطوط شجيرات القطن، منتظرا عطف الظهيرة عليه بنسمة هواء، ولا يعرف "ورق العلّيق"، ولا شم رائحة "الطاطورة"، حينما تتعامد الشمس على الرؤوس المنحنية، تبحث عن "اللطعة"، ولا ذاق جلده الأحمر ضرب الجريد في عز الحر، لأنه لم يجد "اللطعة"، ولا يعرف صيد السمك من "المصارف" أو "تعلب بورش"، ولا نطَّ حدائق العنب، لأنه مولودٌ في الحدائق، وملّ هدوءها الناعم.
أما ما يقرّبني منه، فهي أشياء ساهية وجميلة، أشياء في الحنجرة، هي دلائل الشجن، حينما يخرج من القلب الملتاع بالعذاب، ويصادف حنجرة شهرزاد، أو المنشد أحمد برين. يقربني من عمّار السؤال عن المعنى والحيرة أمام مرح الناس، ومواجعهم في الغناء والحكي.
تجمعني بعمّار ترعة اسمها الإبراهيمية. كانت جميلة، وكان والده يُجلسه، كما يحكي، في حجره طفلا والخفراء بجوار الدكك، وماء الترعة يجري، ولم ينط عمّار في الترعة إطلاقا عاريا مثلنا، ولم يأخذ "حقن الطرطير" في مستشفى سمالوط كل إجازة صيف.
أمرّ الآن على سرايتهم، فلا أجد البيارق تخرج من تحت قبة الشيخ عبد الملك، ولا القصعة بالعسل، ولا الرايات، ولا رقص المجاذيب على الطبول تحت البيارق، فقط أسمعه يقلّد فريد شوقي، في بساطة وعفوية فنانٍ ينصت للناس وطبائعها، فأندم على "غبن قلبي العصي" الذي حال ما بيني وبين تلك الروح الجميلة.
720CD981-79E7-4B4F-BF12-57B05DEFBBB6
عبد الحكيم حيدر

كاتب وروائي مصري