شرق الفرات.. خطوط متشابكة

شرق الفرات.. خطوط متشابكة

09 يناير 2019
+ الخط -
عكست التصريحات الأميركية أخيرا حول شروط الانسحاب الأميركي من سورية؛ وردود الفعل المحلية والإقليمية والدولية عليها؛ تعقيدات المشهد السياسي والعسكري وما انطوى عليه من تناقضٍ في المصالح والمواقف والخيارات؛ وما يترتب على ذلك من فرصٍ ومخاطر، ناهيك بما أثاره قرار الانسحاب من سجالاتٍ داخليةٍ أميركية بين "المؤسسة" والبيت الأبيض، الرئيس خصوصا، حول محدّدات السياسة الخارجية وارتباطها بمصالح الولايات المتحدة وحلفائها؛ وبالقيم التي تتضمنها، حيث نُظر إلى قرار الانسحاب باعتباره خروجا عن القواعد الحاكمة، وتجاوزا للأعراف السائدة وتجاهلا فجّا للتقديرات السياسية والعسكرية الدقيقة والمتماسكة.
لم يكن قرار الانسحاب الفوري والشامل الذي أعلنه الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في تغريدته يوم 19/12/2018 يتعارض مع حقائق الميدان فقط، حيث لا يزال تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، على الرغم من الهزائم والخسائر البشرية والجغرافية الكبيرة، موجودا، ويشكل خطرا في سورية والعراق، بل ومع المصالح والحسابات الجيوسياسية والإستراتيجية للولايات المتحدة وحلفائها، حيث لم يتم التوصل إلى توافق سياسيٍّ، حول مخرج للصراع في سورية وعليها يحقّق مصالحها وتطلعاتها القريبة والبعيدة، يسمح بإغلاق الملف، والعودة إلى الديار، وفق رغبة الرئيس الأميركي، فالمعركة السياسية على الحل، وعلى مستقبل سورية، ودور القوى ونفوذها فيها قائمة، تصعد وتهبط على إيقاع التطورات الميدانية، وتوازنات القوى على الأرض، من جهة. والولايات المتحدة وحلفاؤها، المحليون والإقليميون والدوليون، لا يمسكون بخيوط اللعبة، ولا يتحكّمون بتطوراتها ومآلاتها، حيث نجحت روسيا وإيران وتركيا في إقامة شراكةٍ نفعيةٍ امتلكوا بها زمام المبادرة، وحدّوا من قدرة بقية اللاعبين على التحكّم في الصراع ومآلاته، من جهة أخرى.

حاول العقيد الأميركي المتقاعد، دوغلاس ماغريغور، تبرير قرار الانسحاب بقوله، لقناة فوكس نيوز الأميركية: "إنها خطوة ذكية من شأنها أن تفسد العلاقة بين روسيا وحلفائها في المنطقة.. عملت روسيا جاهدةً، منذ فترة طويلة، على إقامة علاقات مع تركيا وإيران والمعارضة السورية المسلحة، لكن انسحاب القوات الأميركية سيفرض عليها ضرورة الاختيار بين تلك الأطراف... إنها بسحب قواتها من سورية، أزالت الولايات المتحدة العامل الذي كان يجمع بين الشركاء المختلفين، معتبراً أنه لم يعد هناك أي أساس لتعاون الروس والأتراك والإيرانيين من حيث المبدأ، وهذا جيد". في تجاهل تام للاعتبارات الجيوسياسية والإستراتيجية الحاكمة التي تستدعيها مصالح الولايات المتحدة وحلفائها (إسرائيل، دول الخليج، مصر، والأردن)، والتي صُممت لمواجهة النفوذ الروسي المتعاظم شرق المتوسط (سورية، لبنان، فلسطين)، وشمال أفريقيا (مصر، ليبيا، والسودان)، والوجود الإيراني، والمليشيات الشيعية التابعة لها، ليس في سورية فقط، حيث تشكل هاجسا بالنسبة لإسرائيل؛ الطفل المدلل للولايات المتحدة عامة، والرئيس الحالي خصوصا؛ والأردن الذي تضغط عليه إيران من سورية والعراق، بل وفي دول المشرق العربي، العراق ولبنان واليمن، بالنسبة لدول الخليج، السعودية والإمارات بشكل خاص، ومصر، التأثير على مواردها من قناة السويس من خلال التحكّم بباب المندب، ناهيك بمصالح الحليف المحلي: قوات سورية الديمقراطية (قسد) التي تحملت العبء الأكبر في قتال "داعش"، قدمت فيه آلاف القتلى والجرحى، كشفهم الانسحاب المزمع أمام تركيا، وحدّ من خياراتهم، ودفعهم إلى اللجوء إلى التفاهم مع النظام السوري بوساطة روسية، تفاهم ثمنه باهظ: العودة إلى نقطة الصفر.
قال السفير الأميركي السابق في سورية، روبرت فورد، في دفاعه عن قرار الانسحاب كلاما عجيبا: "ثلث البلاد الذي يقع تحت سيطرة قوات سورية الديمقراطية إما صحراء أو سهول جافة. وتنتج حقول النفط فيها نفطا خاما من الدرجة المتدنية، ويحتوي على نسبة عالية من الكبريت. وكميات النفط في هذه الحقول تتراجع. وقبل اندلاع الثورة عام 2011 لم تشكل موارد النفط إلا نسبة 5% من مجمل الناتج المحلي العام، وهذه أرقام صندوق النقد الدولي. وبالتالي، لم تكن سيطرة أميركا على شمال- شرقي سورية لتمنحها ورقة نفوذ تدفع النظام وإيران وروسيا إلى تقديم تنازلات". وأضاف: "ويحذر النقاد من خطر الانسحاب على محاربة تنظيم الدولة، وإمكانية عودته من جديد. وتظل ممكنة مع أن مناطق غرب سورية الواقعة تحت سيطرة الحكومة السورية وحلفائها لا أثر فيها لنشاطات التنظيم". وختم بتقديم نصائح للرئيس الأميركي بخصوص تنفيذ قراره ختمها؛ كأنه يقدم أوراق اعتماد لديه؛ بالقول: "وأخيرا على الرئيس إعادة النظر بفريق السياسة الخارجية، وكيف سبقه في تحديد السياسة السورية. فهو بحاجةٍ لمجلس أمن قومي قادر على نقل حذره، ومظاهر قلقه من السياسة للأشخاص الذين يقومون بتنفيذها. وعلى الفريق التأكيد للعاملين في الأقسام المعنية أن الرئيس يستمع لمواقفهم ولكن عليهم التحرك بناء على توجيهاته" (قرار ترامب السوري كان صحيحا في جوهره وبهذه الطريقة نحقق معظم نتائجه، "واشنطن بوست"، "القدس العربي": 28 /12/2018).
صحيح أن للانسحاب الأميركي، الشامل والفوري، تبعاتٍ سياسيةً وميدانيةً سلبيةً على القوى المسيطرة، روسيا وتركيا وإيران، تبدأ بخلط الأوراق، والدفع نحو إعادة مراجعة الحسابات ورسم الخطط والخيارات؛ وبتظهير التباينات والخلافات بين مصالحها وتصوراتها وخططها، تجلى ذلك جليا في إعلانات روسيا وإيران عن ضرورة سيطرة النظام السوري على المناطق التي تنسحب منها القوات الأميركية؛ وتجسّد عمليا في التسابق على دخول منبج، والسيطرة عليها. كان الوجود الأميركي قد لعب دورا فاعلا في حفظ التوازنات، إلا أنها تبعاتٌ مرحلية، من جهة، حيث طغى توجّه نفعي على سلوك ثلاثي أستانة، عبّر عنه وقف التسابق على منبج، والنظر بإيجابية إلى موقف تركيا من الوضع شرق الفرات؛ كما عكسته نتائج محادثات الوفد التركي في موسكو الذي اتفق مع المسؤولين الروس على التنسيق بين الجيشين، بعد الانسحاب الأميركي. ولن يكون مكسبا صافيا للولايات المتحدة وحلفائها، بل سيثير مخاطر كثيرة (تعزيز الوجود الروسي شرق المتوسط، كمكسب جيوسياسي مهم، والدور الروسي في الملف السوري؛ حيث تغدو الجهة الدولية الوحيدة المحاورة والموازنة بين قوى الإقليم، تكريس النفوذ الإيراني في سورية ولبنان على حساب المصالح الإسرائيلية والخليجية، خطر انفجار مواجهة إسرائيلية إيرانية)، بالإضافة إلى خسائر كبيرة (خسارة ورقة المساومة على الحل السياسي في سورية، خسارة موطئ قدم يتيح التأثير على التغيرات الحالية والقادمة في الإقليم).
استطاعت "المؤسسة" تغيير صيغة القرار من انسحابٍ شاملٍ وفوريٍّ إلى انسحاب بطيء ودقيق ومنسق، كان للجنرال بول لاكاميرا، قائد القوات الأميركية التي تقاتل "داعش" في سورية والعراق، دور بارز في هذا التحول، قبل أن ينجح نوابٌ وشيوخٌ، خصوصا السيناتور الجمهوري، ليندسي غراهام، وجنرالات وزارة الدفاع (البنتاغون)، بالتأثير على الرئيس الأميركي في ضرورة حماية الحليف المحلي، قوات سورية الديمقراطية (قسد) عبر المطالبة بالموافقة على احتفاظها بالأسلحة التي زوّدها بها البنتاغون، والاشتراط على تركيا عدم استهدافها.

أثار الموقف الأميركي الجديد الذي عكسته تصريحات الرئيس الأميركي ووزير خارجيته ومستشاره للأمن القومي، والداعي إلى تنسيق العمل العسكري التركي مع القوات الأميركية، وحماية الكرد من أي هجوم تركي، رد فعل تركيٍّ غاضب؛ فقد جاء الموقف على الضد من الرغبة التركية التي كانت تنتظر وصول مستشار الأمن القومي الأميركي، جون بولتون، كي تفاتحه في قضية الأسلحة، وضرورة تنفيذ وعدٍ أميركيٍّ سابق بسحبها عند انتهاء القتال ضد "داعش"، باعتباره جزءا من صفقة تلزيم تركيا محاربة بقايا "داعش" شرق الفرات، وقد تركّزت التعليقات التركية على صيغة الموقف الأميركي الجديد: حماية الكرد، اعتبرتها صيغةً مخاتلةً، غايتها حماية حزب الاتحاد الديمقراطي وجناحه العسكري (وحدات حماية الشعب) وحزب العمال الكردستاني، وشدّدت على كونهم إرهابيين، ولا يجوز أن يكونوا حلفاء للولايات المتحدة.
لعبت ثلاثة اعتبارات في صياغة الموقف الأميركي الجديد، أولها رد الفعل الإسرائيلي السلبي على الانسحاب الذي أبقاها وحيدةً في وجه إيران، كانت تتوقع مقايضته بانسحاب إيران من سورية. ثانيها انهيار الحليف المحلي: قوات سورية الديمقراطية؛ وانخراطه السريع في مساوماتٍ مع النظام السوري وروسيا، لتوفير غطاء سياسي وحماية عسكرية مقابل تنازلات كبيرة، ما يجعل الانسحاب مكسبا صافيا لروسيا وإيران والنظام السوري، طالبت الكرد بالانتظار، وعدم المسارعة لطلب الحماية من الروس، أو من النظام. ثالثها عدم تحقيق قرار الانسحاب، أهم أهدافه: إبعاد تركيا عن روسيا وإيران، حيث أعلنت تركيا الإبقاء على التنسيق مع روسيا وإيران.