الأنظمة العربية والصعود على سلّم هابط

الأنظمة العربية والصعود على سلّم هابط

06 مارس 2024
+ الخط -

كشف الحراك السياسي والدبلوماسي، الإقليمي والدولي، من أجل وقف الإبادة الجماعية التي ينفّذها جيش الكيان الصهيوني ضد الشعب العربي الفلسطيني في قطاع غزّة ضعف دور الأنظمة العربية وانعدام تأثيرها في المواقف الدولية وفي حكومة الكيان، ما أثار أسئلة عن خلفيات الحالة وجذورها.

جاء إعلان تأسيس النظام الإقليمي العربي في أربعينيات القرن الماضي، جامعة الدول العربية، بميثاقها وأمانتها العامة ومجلس وزراء خارجيتها ولجانها المتخصصة: السياسية والاقتصادية والمالية والثقافية والقانونية والاجتماعية والصحية والإعلامية، إلخ، قاعدةً لتعاون وتنسيق بين الدول العربية، وإطاراً لحماية المصالح العربية وتحقيق الأمن القومي العربي في لحظة سياسية بالغة الدقّة والحساسية، مرحلة التحرّر من الاستعمار وتكريس الاستقلال والسيادة الوطنية.

غير أن الواقع العملي ناقض الإعلان العام، على خلفية ما جاء في ميثاق الجامعة بشأن أهدافها، عدم تدخّل أي دولة في شؤون دولة أخرى، من جهة، وما أضيف لاحقاً عن الحقّ السيادي لكل دولة في تنفيذ قرارات الجامعة وفق ما تراه يخدم مصالحها، من جهة ثانية. وهذا بالإضافة إلى الانقسام العميق بين الأنظمة العربية على خلفية خياراتها السياسية والعقائدية وتحالفاتها الإقليمية والدولية وانفجار الصراع بين الأنظمة الجمهورية والملكية، تحت شعارات "تقدّمية" و"رجعية"، قاد إلى ترهل النظام الإقليمي العربي وتآكل الأمن القومي العربي بمرور الوقت.

لم تستطع الأنظمة العربية مجتمعة الاتفاق على جدول أعمال وسلّم أولويات يرتكز على المشتركات المتفق عليها ووضع القضايا الخلافية جانباً. كذلك لم تستطع الأنظمة الجمهورية ولا الملكية الاتفاق على جدول أعمال وسلّم أولويات يلحظ المشتركات مع شبيهاتها، فقد انخرطت، بدلاً من ذلك، في صراع وتنافس سلبي على الزعامة والقيادة، ليس بين الأنظمة الجمهورية والملكية فقط، بل داخل الأنظمة الجمهورية والأنظمة الملكية أيضاً، ما استدعى الدخول في تحالفاتٍ إقليميةٍ ودولية لتثقيل أوراقها في مواجهة خصومها ومنافسيها، فانحازت الأنظمة الجمهورية "التقدّمية" في مصر وسورية والعراق والجزائر واليمن الجنوبي إلى الاتحاد السوفييتي، ودفعت مقابل الحماية والأسلحة والخبرات الصناعية جزءاً مهماً من استقلاليتها. وانحازت الأنظمة الملكية إلى الغرب، والولايات المتحدة خصوصاً، ودفعت مقابل الحماية عائداتها من البترودولار ثمناً لصفقات أسلحة كبيرة وبنى تحتية فارهة، ما عمّق خلافاتها وصراعاتها، فتحوّلت على الضد من المعلن، التكامل، إلى حالةٍ تفاضلية مضرّة ترتب عليها مزيدٌ من تآكل المشتركات العربية وأوراق القوة التي يوفرها التوافق والتعاون العربيان. وقد زادت طبيعة الأنظمة العربية السلطوية والاستبدادية وأولوياتها في الهيمنة والسيطرة على مجتمعاتها عبر إضعاف هذه الأخيرة باستتباعها بعقد سياسي يقايض الحقوق والحريات بالوظائف والخدمات والمُنح والبحبوحة المعيشية؛ وبالتمييز بين المواطنين على أساس العرق والدين والمذهب والجنس؛ وسلب المجتمعات دورها في المشاركة في تحديد الأهداف والوسائل السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمشاركة في اتخاذ القرارات المصيرية، وبتنميط ردود أفعالها بحيث تصبح صدىً لقرارات الأنظمة وخياراتها، زادت الطين بلة، وأدّت إلى ترهلها وهشاشة بنياتها السياسية والاجتماعية وتآكل شرعيتها، وإلى انعدام وزن جيوسياسي وجيواستراتيجي فاقع.

الأنظمة العربية أمام خيارين مرّين: الخضوع لإسرائيل أو الخضوع لإيران

كانت فترات التهدئة وتجميد الصراعات قصيرة ومرتبطة بحروب مع الكيان الصهيوني، هزيمة يونيو (1967) وحرب أكتوبر (1973)، والتفاعل مع معاناة الشعب الفلسطيني وتطورات قضيته، أيلول الأسود في الأردن (1970)، وتدخّل النظام السوري العسكري ضد منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان مارس/ آذار 1976. تهدئة دافعها الاستحواذ على الملف الفلسطيني، من جهة، ومراعاة شعور الرأي العام الوطني والعربي، من جهة ثانية. هذا قبل أن يتلاشى دور هذا العامل في ضوء تراجع الصراع بين الأنظمة الجمهورية والأنظمة الملكية بعد ميل الكفّة لصالح الأخيرة على خلفية تآكل المشروع القومي وبروز الخيارات الخاصة لدى الأنظمة وتبنّي خيار التسوية مع الكيان الصهيوني وإقامة علاقات سرّية وعلنية، أمنية وتجارية، معه، كان موقف المتفرّج من اجتياح الكيان الصهيوني لبنان يونيو/ حزيران 1982 وإخراج منظمة التحرير وقوات فصائلها منه تجسيداً صارخاً لهذا التلاشي ولتراجع موقع القضية الفلسطينية على سلّم اهتمامات الأنظمة العربية، الجمهورية والملكية، وتحول الصراع مع هذا الكيان إلى صراع فلسطيني إسرائيلي.

سمح ضعف الأنظمة العربية، الذي ترتب عن تآكل التوافق والتعاون العربيين وتراجعهما، وبروز النزوع إلى الخلاص الفردي بينها، حتى لو جاء على حساب المشتركات والمصالح العربية، بصعود قوّتين إقليميتين: الكيان الصهيوني وإيران، على حسابها، فقد نمت قوة الكيان العلمية والصناعية، المدنية والعسكرية، والاقتصادية، فاق ناتجه القومي 400 مليار دولار، كسر عزلته السياسية من خلال توريد التقنيات الدقيقة والأسلحة، واخترق ساحات مؤيدة تقليدياً للقضية الفلسطينية في آسيا وأفريقيا.

استثمرت الولايات المتحدة هواجس دول الخليج العربية ومخاوفها من إيران وأذرعها

استغلّ النظام الإيراني تراجع اهتمام الأنظمة العربية بالقضية الفلسطينية، كما كشفه الاجتياح الإسرائيلي لبنان عام 1982، فاستخدمها راية وغطاءً لتغلغله في المجتمعات العربية، وربط نصرة الشعب الفلسطيني بإسقاط الأنظمة العربية التي تخلت عنه لأنها، من وجهة نظره، عميلة للولايات المتحدة، وتشكّل خطراً على النظام الإسلامي في إيران. ووضع لذلك استراتيجية "تصدير الثورة" إلى هذه الأنظمة من أجل إسقاطها وإقامة أنظمة إسلامية بديلة على النمط الإيراني تسير في ركابه، وفتح مع الأنظمة العربية المجاورة ملفّات عالقة وأخرى جديدة من تسمية الخليج العربي بالخليج الفارسي، إلى الادّعاء بإيرانية البحرين، مروراً بالتمسّك باحتلال الجزر الإماراتية، وشنّ حملة إعلامية على النظام المصري لعقده اتفاقية كامب ديفيد مع الكيان الصهيوني، وأطلق اسم قاتل الرئيس المصري، أنور السادات، خالد الإسلامبولي، على شارع رئيس في طهران، ورفع شعار استعادة حقوق الشعب الفلسطيني المظلوم بتحرير فلسطين؛ وأعلن نيّته تشكيل جيش القدس المكوّن من عشرين مليون مقاتل لتحقيق هذا الهدف. ودخل بسبب محاولته "تصدير الثورة" إلى العراق في حرب مع النظام العراقي استمرّت ثمانية أعوام، راح ضحيتها أكثر من مليون إنسان من الطرفين، فضلاً عن خسائر مادية قُدِّرت بـ400 مليار دولار، ما دفعه إلى التراجع عن فكرة جيش القدس والبدء بتشكيل مليشيات شيعية في عدّة دول عربية فيها أقليات شيعية مستغلاً المظلومية التي عاشتها هذه الأقليات نتيجة التمييز والاضطهاد ضدها من أنظمة بلادها، وأغرق الدول العربية في صراع سُنّي شيعي مزّق مجتمعاتها، وأقام حواجز صلبة بين مواطنيها، وثبّت نفوذه فيها.

نجح النظام الإيراني في ضرب عصفورين بحجر: اختراق أنظمة عربية بقوى شيعية منظّمة ومسلّحة، وتأسيس موطئ قدم له في هذه الدول. وقد قال القائد السابق لفيلق القدس، ذراع الحرس الثوري في العمليات الخارجية، الجنرال قاسم سليماني، "إنه أقام عشر إيرانات خارج إيران"، وتبجّح مسؤولون إيرانيون بأن بلدهم يسيطر على أربع عواصم عربية (بيروت ودمشق وبغداد وصنعاء). ونشر موارد عسكرية كبيرة في دول جوار الكيان الصهيوني، ربيب الولايات المتحدة، باعتباره قاعدة أميركية متقدّمة وأداة محتملة للهجوم على الثورة الإسلامية، كقوة ردع لمنع هجوم أميركي أو إسرائيلي على الأرض الإيرانية. كذلك وظّف نجاحه هذا في الضغط على دول الخليج العربية للتفاهم على أمن الخليج وإخراج القوات الغربية، الأميركية بشكل خاص، منه.

نجح النظام الإيراني في ضرب عصفورين بحجر: اختراق أنظمة عربية بقوى شيعية منظّمة ومسلّحة وتأسيس موطئ قدم له في هذه الدول

استثمرت الولايات المتحدة هواجس دول الخليج العربية ومخاوفها من إيران وأذرعها، خصوصاً بعد هجمات حركة أنصار الله (الحوثية) بالصواريخ البالستية والمسيّرات على المدن والمطارات ومصافي النفط في السعودية والإمارات، وتعمد إدارة الرئيس السابق، دونالد ترامب، تجاهل هذه الهجمات، حيث لم تكتفِ بعدم الردّ على الهجمات، بل زادت بسحب أنظمة دفاع جوي من نظامي باتريوت وثاد من السعودية، كي تضع دول الخليج العربية أمام الخيار الوحيد: التطبيع مع الكيان الصهيوني وإقامة تحالف عسكري، ناتو شرق أوسطي، معه للجم إيران ومليشياتها. وهذا ما كان، حيث طبّعت الإمارات والبحرين معه، ودخلت معه في علاقات أمنية وعسكرية واقتصادية، ومنحته فرص العمل والاستثمار في دولها ومجتمعاتها، علاقات مالت لصالحه، في ضوء قدراته العلمية والتقنية ونفوذه الدولي، ما جعل الأنظمة المنخرطة في هذه العلاقات ساحة لفعله وفرصة للهيمنة والسيطرة فيها والتسلل منها إلى بقية الدول والمجتمعات العربية الأخرى، والعمل على توظيف ذلك كله لدفن القضية الفلسطينية وإنهاء المطالبة بالحقوق المشروعة للشعب العربي الفلسطيني في تقرير المصير وإقامة دولته الوطنية. وانفتحت السعودية على حوار أمني معه وسمحت لطائراته المدنية والتجارية بالعبور في أجوائها، قبل أن تنخرط في مفاوضات حول التطبيع معه بواسطة إدارة بايدن. وحاولت تخفيف وقع التطبيع على النظام الإيراني بالتصالح معه، لكن الأخير تعامل مع الموقف باعتباره استسلاماً سعودياً لتوجهاته وخياراته، واشتركت مع الإمارات في مشروع ممرّ المتوسّط الذي يقود إلى تطبيع مجاني.

مع عملية طوفان الأقصى، وبدء حرب الإبادة الجماعية على الشعب العربي الفلسطيني في قطاع غزّة وخطط الكيان لرسم خريطة جديدة للإقليم، أساسها هيمنة وسيطرة على فلسطين من النهر إلى البحر وترحيل الفلسطينيين خارج الضفة الغربية وقطاع غزّة، واكتشاف قدرة إيران على تحريك أذرعها وضبط إيقاع حركتهم وفق مصالحها وانخراطها في مفاوضاتٍ إقليميةٍ ودوليةٍ لتكريس حضورها ونفوذها في الإقليم وتحقيق مكاسب سياسية تؤهلها لاحتلال مركز الصدارة فيه، وجدت الأنظمة العربية نفسها أمام ساعة الحقيقة، وأنها ستكون خاسرة في حال فوز الكيان الصهيوني وحقق أهداف حملته العسكرية بسحق حركة حماس وإنهاء سلطتها في القطاع أو في حال نجاح إيران في حماية حماس من هزيمة شاملة وتثبيت مكاسبها في الإقليم. إنها أمام خيارين مرّين: الخضوع لإسرائيل أو الخضوع لإيران.

جنت الأنظمة العربية على نفسها وعلى شعوبها، حين استمرأت الاعتماد على الحماية الخارجية وعدم تحقيق قدرات ذاتية وازنة ورادعة، أساسُها مجتمعٌ حرُّ ومتماسكٌ وقوي، وحين استخفّت بالاستحقاقات العربية وتخلّت عنها تحت وهم الخلاص الفردي.