في العصبيّة الشخصانيّة

في العصبيّة الشخصانيّة

30 يناير 2019
+ الخط -
العصبيّة، كما جاء في "لسان العرب" لابن منظور، هي: "المحاماة والمدافعة، وهي أن يدعو الرّجل إلى نصرة عَصَبته (أقاربه) والتألّب معهم، على من يناوئهم، ظالمين كانوا أو مظلومين". وبذلك، العصبيّة تقديم لمصلحة الفرد وقبيلته أو عشيرته أو الفئة التي ينتمي إليها على مصالح المجموعة. وهي فعلٌ انفعاليّ، لا يحتكم بالضرورة إلى أولويّات الصالح العامّ، بل إلى إملاءات المصلحة الفرديّة أو الفئويّة أو الجهوية. وصاحب العصبيّة، على حدّ قول ابن خلدون، "إذا بلغ رتبةً طلب ما فوقها، فإذا بلغ السّؤدد والاتّباع ووجد السّبيل إلى التغلّب والقهر لا يتركه"، فالعصبيّ مسكونٌ بهاجس حبّ الهيمنة، وبإحساس تضخّم الأنا، فهو ميّالٌ إلى طلب السّلطة وإعلان السّيادة، ولو كان ذلك بالتأسيس للذات عبر تقويض الآخر.
والمراد بالعصبية الشخصانية أن يدّعي الواحد الأمر لنفسه، فيزعم هذا أنّه صنع التغيير، وذاك أنّه بطل الثّورة، وسواه أنّه حامي الحمى والدّين، وغيره أنّه وصيٌّ على النّاس وناطق بالنصّ، ويدّعي امتلاك الحقيقة، واحتكار السّلطة المادّية أو الرّمزية. فيصنع الفردُ، سواء كان زعيما سياسيّا أو شيخا أو شخصيّة إعلامية أو فنّية، أو رئيس مصلحـة أو مدير مؤسّسة، كاريزما لنفسه، وينصّب ذاته سيّدا على الكلمات، وعلى النّاس، وعلى الأشياء، ويعتبر نفسه مستودع العلم، وغاية الفضل وقمّة الوطنيّة، والحال أنّه قد يكون بعيدا عن تلك الخصال، فترى بعض الأفراد يدّعون مجدا ما كان لهم، ونضالا ما أخبرت عنه سيرتهم، وترى الآخر يجمع إليه 
معجبين، وينصرف مصنّفا النّاس بين عميلٍ ووطنيّ، ومؤمنٍ وكافر، وصديق وعدوّ، ومتقدّم ورجعيّ، ولا يرى حرجا في تحريض المعجبين به، ليتهافتوا على كلّ من نقده أو خالفه الرّأي، أو رفض الانضمام إلى جوقات التمجيد. ويؤدّي ذلك إلى انحسار مساحة التفكير الحرّ، وغيبة المقاربات النقدية الجريئة في مقابل ازدهار ثقافة الزبونية والمُداراة، والمحاباة والمحسوبية.
والحقيقة أنّ العرب عانوا كثيرا، على مرّ التاريخ، من أفرادٍ تعصّبوا لأنفسهم ولأفكارهم وسياساتهم، فكانوا وبالا على أنفسهم، وعلى الوطن. ذلك أنّ العصبيّة الشخصانيّة ضارّة بمدّعيها وأتباعه ومخالفيه على السّواء، وهي عصبيّةٌ لا تأخذ الوطنيّة منطلقا، بل تتّخذ الفردانيّة مبدأ ومُرادا، فتتركّز بذلك السّلطة في شخص الفرد الواحد الذي يجمع إليه كلّ أسباب النّفوذ والشهرة والجاه، ويعامل بقيّة النّاس تابعين له، لا يُشرِكهم في القرار بقدر ما يُملي عليهم رغباته، ولا يستشيرهم بقدر ما يُوظّفهم لتبرير أفعاله، ولا يستمع إليهم، بل يأمرهم ويصادر أفكارهم وأحلامهم وأصواتهم، حتى لا يسمع النّاس إلّا صوته، فيضيع المجتمع في حمأة تضخّم الذات واستكبار الأنا. ولقد أثبتت التّجارب التاريخيّة للشعوب أنّ استئثار الفرد بالهيمنة لا يدوم، فقد انفضّ النّاس من حول أدولف هتلر بعدما دانوا له، وانتفض المحكومون على نيكولاي تشاوتشيسكو، بعدما صفّقوا له طويلا. وفي النّهاية، شهدوا إعدامه في السّاحات العامّة في رومانيا. وكذا كان مصير العقيد معمّر القذّافي الذي طلب أسباب الزّعامة القوميّة والقاريّة والأمميّة، وتغاضى عن أشواق المواطنين إلى الحرّية والعدالة والكرامة، فهجموا عليه، وقضّوا أركان الجماهيريّة الموهومة. وكذا كان شأن حسني مبارك في مصر وعلي عبدالله صالح في اليمن الذين حكما بطريقةٍ أحاديةٍ، واستجمعا أسباب النفوذ المالي والإعلامي، وتوسّلا بمنطق الولاء والزبونية لمزيد البقاء في سدّة الحكم. لكن من دون جدوى. ذلك أنّ حصون الشخصانية تتهاوى، طال الزمان أم قصُر، أمام تزايد الوعي الشعبي بخطورة النهج الفرداني/ الاستبدادي في إدارة دواليب الدولة. وفي تونس ترك الحبيب بورقيبة المعجبون به والمعارضون له في أخريات حياته، ولم ينفعه الذين مجّدوه طويلا، ووصفوه "المجاهد الأكبر". وذلك لأنّه نصّب 
نفسه رئيسا مدى الحياة، واختزل الدّولة في شخصه. ولم تنفع خلفه الجنرال المخلوع زين العابدين بن علي عبارة "فهمتكم" في آخر خطابٍ توجّه به إلى التونسيين. وذلك راجعٌ إلى أنّ النّاس سئموا استئثاره بالقرار والسلطة والثروة سنوات. والأمر غير مختلفٍ مع بعض الرّموز الأيديولوجية. خُذ مثلا فلاديمير لينين، مؤسس الحزب الشيوعي الروسي وقائد الثورة البلشفية، فبعدما قدّس النّاس شخصه، وحفظوا أفكاره، وأقاموا له نصبا تذكاريّة، وكتبوا كلامه بحروفٍ من ذهب، هبّ الشباب الثّائر ليكسر تمثاله في أوكرانيا وغيرها من دول أوروبا الشرقيّة. وفي ذلك تعبيرٌ عن ضيق الإنسان بتقديس الأشخاص، وتحنيط الأفكار، وتحويل الكائن البشريّ صنما، فتلك سنّة التّاريخ تقتضي التّغيير على الدّوام، وتلك سنّة العمران تقتضي التطوّر والتداول، ولا ترضى بالثّبات. ذلك أنّ دوام الحال من المحال، ومصير الزّعاماتيّة المفرطة في أيّ مجال إلى زوال، لا محالة.
يمكن القول، ختاما، إنّ العصبية الشخصانية تتعارض مع منطق التنسيب ومطلب التعدّدية، ومقتضيات ثقافة الاختلاف، وتهدّد استمرار العمران وحفظ المعاش، ووحدة الوطن، ومُتعة التنوّع. وتكرّس سطوة الفرد واستئثاره بالسلطة، والقوّة، والقرار على نحوٍ يحجب الحرّية والعدالة والنزاهة، ويقلّص هامش الإبداع. والحاجة أكيدةٌ في سياق عربي إلى تحويل شعور المحاماة وحركة المدافعة نحو إقامة دولة المواطنة والمحافظة على المكاسب المدنية، والمطالبة بالحقوق وأداء الواجبات، وتأسيس وعيٍ تنويريٍّ جديدٍ، يتجاوز العصبيّة، ليأخذ في الاعتبار الصالح العامّ، وإشراك جميع المواطنين في بناء دولةٍ وطنيةٍ، رشيدة، جديدة.
511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.