"أونروا" وزيت السمك

"أونروا" وزيت السمك

30 سبتمبر 2018
+ الخط -
ما إن مضغتها حتى شعرت بالغثيان، وبرغبةٍ جامحة في التقيؤ، وظلت أنفاسي عابقةً بطعمها الكريه طوال ذلك اليوم المدرسيّ الذي عرفت فيه أن كبسولة "زيت السمك" تمثل الفرق بين اللاجئ والمواطن.
حدث ذلك قبل نحو خمسين لجوءًا، ولم تكن مدارس "أونروا" الخاصة باللاجئين الفلسطينيين قد فتحت أبوابها آنذاك، إذ كان ضجيج نكسة 1967 ما يزال مدويًّا، والكل في حالة هذيان، أما المنظمّة الأممية نفسها التي أنشئت على عجل، فقد اقتصرت بواكير أنشطتها على توزيع "المؤن" على اللاجئين، بضع أوقيات من الأرز والبرغل والسمن وعلب السردين والبسكويت السميك، إضافة طبعًا إلى حبات زيت السمك، ويشترط للحصول على ما كنّا نسميها "بقجة المؤن" أن يحمل المراجعون المتزاحمون على مراكز التوزيع الخاصة بوكالة أونروا "كرت المؤن"، والذي لا يصرف إلا للاجئين فقط.
وكانت المفارقة الساخرة أن هوية "اللاجئ" لا تثبت إلا بـ"اللاهوية"؛ لأن اللاجئ لم يعد يحمل أية هوية وطنية غير هوية "اللجوء" فقط، ثم تطوّرت الهوية إلى رائحة زيت السمك، التي تنبعث من أفواه اللاجئين لتميزهم عن غيرهم.
منذ ذلك الوقت، كرهت "أونروا"، وكرهت معها "زيت السمك"، وشعرت أنه من أشكال "التمييز العنصري" الذي يُراد به عزل اللاجئين عن سواهم، تمامًا كما كان يفعل هتلر حين أجبر يهود ألمانيا على تعليق شاراتٍ خاصّة تميزهم عن بقية المواطنين، ولتسهيل القبض عليهم وعزلهم.
أزيد من ذلك، شعرت أن هناك من يحاول، بمكر، أن "يجعل من الحبّة قبة"؛ بمعنى أن يحشو فلسطين كلها بكبسولة زيت السمك، ليتناولها اللاجئ ويعيش حالةً من الخدر الوطني، تُهيّئ له أن ما تناوله هو سمك حيفا الطازج، مثلًا، ولا حاجة له أن يفكّر بالعودة أو بتحرير وطنه.
وكانت المخيمات الفلسطينية التي أنشئت على عجل، هي الأخرى، تتمّم مشهد العزل العنصري، أيضًا؛ إذ كنت أراها نوعًا من "الجيتوهات" التي يراد حشو اللاجئين بها، وعزلهم عن العالم كله، مع جعلها بؤر استدرار للعطف والصدقات من فتات ممولين ماكرين، موّلوا إسرائيل واقتصادها، وعزّزوا أركانها، بكل ما يمتلكون من أموال وأسلحة. وفي الحالين، كانت كبسولة "زيت السمك" شاهدًا على رحلة الخديعة تلك.
لا أنكر أن فكرتي عن "أونروا" تغيّرت بعد ذلك، وغدوْت من أشد المتضامنين معها في محنتها، عقب القرار الأميركي وقف التمويل عنها، غير أنني على قناعةٍ، في المقابل، أن من قلب عمل هذه الوكالة من فعل تخديري واستدرار عاطفي إلى سلاح بيد الفلسطينيين ينضاف إلى ابتكاراتهم وعبقرياتهم النضالية، هم اللاجئون أنفسهم، تمامًا كما فعلوا في مخيماتهم التي حوّلوها من "جيتوهات" للعزل العنصري إلى مراكز إشعاع يزدحم على أبوابها "حَمَلةُ الهويات" لمعرفة كيف استطاع الذين لا يحملون الهويات أن يقدّموا للعالم آلاف المقاتلين الذين "رموا كروت التموين" جانبًا، وقرّروا أن لا شيء يمنعهم عن تحرير فلسطين، وإلى أن يحين الموعد الحتمي، فلا بأس أن يصبحوا شعراء وعلماء ومفكرين واقتصاديين، يشار إليهم بالبنان.
على الغرار ذاته، تحولت "أونروا" إلى مركز إشعاع فلسطيني هي الأخرى، بفضل المدرسين الفلسطينيين الذين تمكّنوا من تخريج أجيال من المتعلمين الذين يتوزعون على أربع جهات الأرض، متسلحين بشهادتين معًا: العلم وفلسطين، كما جعلوا من هذه المنظمة الأممية مدرسة للحراك الوطني والمطلبي، تستفيد من تجربتها بقية منظمات المجتمع الأخرى.
لهذا كله، وأزيد منه، انتبهت الولايات المتحدة وأقرانها إلى الخطورة التي باتت تمثلها "أونروا"، بعد أن تحولت من رمز للعزل إلى رمز للعلم، وإلى فكرةٍ لا تموت بحق العودة، سواء كانت ممزوجة بنكهة "زيت السمك" أم بنكهة التحرير.
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.